الأرشيفعربي وعالمي

وديع حـــــــدّاد 1968: عن ميثـــــــــــاقٍ وصــــــــــــــورة – نُفّج الرشيد

ستضيءُ هذه المقالة على جانبٍ مغْفَلٍ من نضال الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة التي سبقتْ إعلانَ الكفاح المسلّح. وكما هو معلوم فقد هدفتْ حركةُ القوميّين العرب منذ نشأتها إلى دعوة القوى الثوريّة العربيّة إلى الوحدة، وعملتْ على ذلك خلال تاريخها القصير (1951-1968). لهذا فعندما أُخِذَ القرارُ بتشكيل منظّمة التحرير الفلسطينيّة سنة 1964 من قِبل مؤتمر القمّة العربيّة في أوائل تلك السنة،[1] كان من الطبيعيّ أن يركِّزَ أقليمُ فلسطين داخل هذه الحركة على تجميع القوى الفلسطينيّة، منعًا لتشتيت الجهود طبقًا لمقولةٍ شائعة: “كلّما اجتمع فلسطينيّان وآلةٌ طابعة، تشكّلتْ منظّمةٌ جديدة!”[2]
حين طُرحت الدعوةُ إلى تشكيل منظّمة التحرير، ساد اتجاهان في الساحة الفلسطينيّة، خصوصًا داخل إقليم فلسطين في حركة القوميّين العرب، الذي قادهُ حينها الدكتور وديع حدّاد:
– اتجاهٌ يدعو إلى البقاء خارج المنظّمة لكونها صادرةً من مؤتمر القمّة العربيّة والجامعة العربيّة، تخوّفًا من وصايةٍ رسميّةٍ عربيّةٍ على النضال الفسطينيّ الثوريّ؛
– واتجاهٌ يدعو إلى المشاركة الفعّالة داخل المنظّمة لكونها أداةً جامعةً لكافّة الفلسطينيّين، وإطارًا محتملًا للعمل العلنيّ.

غلاف ملحق فلسطين، العدد 12، 8/4/1965 الذي يشرح الطردَ الممنهجَ لشعب فلسطين
حُسم النقاشُ لمصلحة بقاء الحركة وإقليمِها الفلسطينيّ داخل المنظّمة. خلال تلك الفترة (1964-1968) عملَ إقليمُ فلسطين على جمع شتات القوى الفلسطينيّة المقاتلة عبر :
أولًا: استيعاب تاريخ فلسطين الحديث – أيْ منذ فترة الانتداب البريطانيّ، وبخاصّةٍ الخطط التي وُضعتْ لطرد الفلسطينيّين من بيوتهم وبلادِهم. واستُعين بالعديد من خبراء هذا التاريخ ، ونُشرت الدراساتُ في ملحق فلسطين، التابع لجريدة المحرِّرالبيروتيّة، وكان رئيسُ تحرير الملحق في تلك الفترة الأديب غسّان كنفاني.[3]
ثانيًا: مراجعة تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في تلك الفترة. وقد قام بهذه المهمّة الأستاذ برهان الدجّاني، وتركّز الاهتمامُ على انتفاضة القسّام سنة 1935، ومن ثمَّ ثورة الأعوام 1936-1939، التي كان من نتائجها إصدارُ بريطانيا الكتاب الأبيض عن وقف الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين.

مقالة حول ميثاق العمل الفسطيني الموحّد، أحد أعداد ملحق فلسطين
ثالثًا: عقد مؤتمرات سنويّة لإقليم فلسطين، واجتماعات الشُعَب والاجتماعات الموسّعة، لطرح نتائج المؤتمرات السنويّة؛ بالإضافة إلى اللقاءات مع قيادات منظّمة التحرير. وهذا سَمحَ بنقاشٍ واسعٍ للقضايا التي يُتوقّع طرحُها على الصعيد الفلسطينيّ، ما أسهم في وضع برنامج وطنيّ فلسطيني يَجمعُ شتاتَ القوى الفاعلة المنظَّمة الفلسطينيّة، أو ما عُرف بــ الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ (أنظر مقالات ملحق فلسطين).[4]
رابعًا: المساهمة الداخليّة المنظّمة مع قياديّي منظّمة التحرير الفلسطينيّة، كأحمد الشقيري ومسؤولِها العسكريّ وجيه المدني، وقوى جيش التحرير الفلسطينيّ. وهذا أسهم في النقاش الداخليّ حول ما عُرف بـ “العمل الموحّد.”
بسبب أجواءِ ما قبل نكسة 67، أُجّل المؤتمرُ الوطنيُّ الفلسطينيّ في 4/5/1967 إلى السنة التالية. ثم وقعت الحربُ، وهُزمت الجيوشُ العربيّة، واحتلّ العدوُّ ما تبقّى من فلسطين التاريخيّة (الضفّة الغربيّة، وضمنها مدينةُ القدس القديمة، وقطاع غزّة)، فضلًا عن سيناء والجولان.
أتى الردُّ الفلسطينيُّ بخطواتٍ سريعةٍ قام بها إقليمُ فلسطين، عن طريق الدعوة إلى مفاوضاتٍ عُقدتْ بين بيروت ودمشق، وشملتْ كافّةَ التنظيمات الفلسطينيّة. قاد هذه المفاوضاتِ الدكتور وديع حدّاد، لكونه المسؤولَ الأوّلَ عن إقليم فلسطين داخل الحركة. انسحبتْ حركةُ فتح لاحقًا من هذه الاجتماعات. وتُوّجتْ تلك اللقاءاتُ بإعلان إنشاء الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين في 11/12/1967. وقد ضمّت الجبهةُ آنذاك: إقليمَ فلسطين في حركة القوميّين العرب، وجهازَها الفدائيَّ المعروفَ بـ”شباب الثأر،” ومنظّمةَ “أبطال العودة،” بالإضافة إلى جبهة التحرير الفلسطينيّة بقيادة أحمد جبريل. واستمرّت لقاءاتُ دمشق، التي تابَعَها الدكتور جورج حبش، بالإضافة إلى متابعته دعمَ انتفاضة الضفّة الغربيّة.
غير أنّ هذا النشاط جرت محاولاتٌ لوقفه بعد اعتقال حبش في دمشق في آذار (مارس) 1968. ولم تنفع الوساطاتُ العديدةُ للإفراج عنه، ومنها وساطةُ وفد نقابة المحامين الفلسطينيّين برئاسة نقيب المحامين العرب حينها الأستاذ شفيق إرشيدات.
بعدها توجّه حدّاد، برفقة أحمد اليماني (أبي ماهر)، في تمّوز من تلك السنة، إلى القاهرة ليساهمَ في أعمال المؤتمر الوطنيّ الفلسطينيّ الرابع (10-17 من شهر تموز 1968). ومن أهمّ تفاصيله:
– في بداية المؤتمر شُكّلتْ هيئةُ رئاسةٍ للمجلس، برئاسة عبد المحسن قطّان. وكان حدّاد نائبًا له، وزهير محسن نائبًا ثانيًا، وسليم الزعنون أمينًا للسر.
– شكّلَ المؤتمر بدايةَ سيطرة التنظيمات الفلسطينيّة التي رفعتْ شعار “حرب التحرير الشعبيّة طريقًا لتحرير فلسطين.” وحلّ الميثاقُ الوطنيّ الفلسطينيّ[5] محلّ الميثاق القوميّ الفلسطينيّ (1964)؛ ما اعتُبرَ حينها نصرًا كبيرًا للقوى الفلسطينيّة الثوريّة المسلّحة ورفعًا للوصاية العربيّة عن القضيّة الفلسطينيّة. فقد “مثَّلَ الميثاقُ الوطنيّ الفلسطينيّ التطوّراتِ والتغييراتِ التي شهدتْها الساحتان الفلسطينيّة والعربيّة، وفي مقدّمتها تصاعدُ الكفاح المسلّح الفلسطينيّ، ولا سيّما بعد الخامس من حزيران 1967، وبروز الدور القياديّ لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة كممثّل شرعيّ ووحيد للشعب الفلسطينيّ.”[6]

الصورة التي عُرفت للدكتور وديع، ويبدو هنا في يسار الصورة يقرأُ بيانَ العمليّة
بقي حدّاد في القاهرة حينها، وأرسل رفيقَ دربه أبا ماهر اليماني إلى الجزائر ليكون في استقبال أوّل عمليّةٍ خارجيّةٍ نفّذتْها الجبهةُ الشعبيّةُ بهدف السيطرة على إحدى طائرات شركة العال الإسرائيليّة (ردًّا على اختطاف العدوّ طائرةَ ميغ عراقيّة سنة 1966، وأيضًا بسبب دوْر هذه الطائرات في حرب 1967 من نقل عتادٍ ومتطوّعين للمجهود الحربيّ الإسرائيليّ).[7] فقد أُعيد توجيهُ تلك الطائرة إلى العاصمة الجزائريّة تحيّةً للثورة الجزائريّة. ووُقّتت العمليّةُ في 23 تمّوز (يوليو) 1968، أيْ في الذكرى السادسة عشرة للثورة المصريّة.
في ذلك الأسبوع المشحون بالترقّب والقلق، أعلن حدّاد ورفاقُه بيانَ العمليّة، وظهرت الصورةُ المعروفةُ له حتى تاريخ استشهاده في آذار/مارس 1978.
بعدها، وبعد تنفيذ حدّاد عمليّةَ إطلاق سراح حبش من سجنه في دمشق في تشرين الثاني من السنة ذاتها، سيتفرّغ حدّاد لملاحقة العدوّ وحلفائه تحت الشعار الذي أطلقه رفيقُ دربِه الشهيد غسّان كنفاني: “وراء العدوّ في كلّ مكان.”
***
لقد كانت المسيرةُ الفلسطينيّة منذ النكبة مليئةً بالصعاب والتحدّيات، ولكنّها كانت أيضًا مليئةً بالإنجازات والنقاط المضيئة. وعلينا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا الاستفادةُ من هذه الإنجازات والنقاط المضيئة، والتمسُّكُ بها، كي لا يعود النضالُ الفلسطينيّ إلى نقطة الصفر عند كلّ مفترق، خصوصًا بعد أن عاد الكيانُ الصهيونيّ عن اتفاقيّات اوسلو، وأعاد احتلالَ الضفّة الغربيّة سنة 2000، وما يزال يخطّط لابتلاع ما تبقّى من الضفّة الغربيّة، ومن ضمنها القدسُ الشرقيّة وأحياؤها المحيطة. وما الصراع الذي يجري حاليًّا حول حيّ الشيخ جرّاح وغيره من الأحياء المقدسيّة وفي الأغوار إلّا جزءٌ من ذلك المخطّط.
ومن ضمن الإنجازات التي ينبغي أن نعودَ إليها الميثاقُ الوطنيّ الفلسطينيّ، الذي كان إلغاؤه أحدَ شروط خصوم شعبنا لبدء مسيرة “المفاوضات” التي أوصلتنا إلى الوضع الحاليّ.[8] هذا هو الإطار الذي سعى إلى جمع شتات الفلسطينيّين كافّة، وكان الأساس في الحفاظ على الهويّة الفلسطينيّة من التشتُتِ والضياع .
والأهمّ أن نعود إلى قراءة تاريخنا الحديث، لا كما يريدونه لنا، بل كما نخُطُّه نحن.
بيروت
[1] دعا الرئيس جمال عبد الناصر إلى مؤتمر القمّة العربيّة الأوّل في القاهرة عام 1964، وذلك عقب بدء “إسرائيل” تحويلَ مياه بحيْرة الحولة في فلسطين إلى النقب. وكان أحدُ قرارات المؤتمر تشكيلَ منظّمة التحرير. أنظر: الموسوعة الفلسطينيّة، القسم العامّ، المجلّد الرابع بعنوان: منظّمة التحرير الفلسطينيّة (دمشق، ط1 ، 1984)، ص 313.
[2] هناك مقالة لغسّان كنفاني منشورة في مجلّة الحرّيّة تحت هذا العنوان.
[3] أنظر مقالات ملحق فلسطين التابع لجريدة المحرِّر اللبنانيّة، خصوصًا العدد 16، بتاريخ 1/6/1965. وقد احتوى المواضيعَ الآتية:
– القوى الثوريّة تناقش م.ت.ف. في تجربتها ومستقبلها – طريق الثورة أمام م.ت.ف. /حركة القوميين العرب – قيادة العمل الفلسطينيّ.
– فلسطين تبدي رأيَها في قضايا المؤتمر الأساسيّة (المجلس الوطنيّ – التنظيم الشعبيّ – اللجنة التنفيديّة – المنظّمات الفلسطينيّة).
– قيادة العمل الفلسطينيّ في حركة القوميّين العرب تقدم: مشروع التنظيم الشعبيّ.
– مذكّرة المكتب السياسيّ للقوى الثوريّة الفلسطينيّة للمجلس الوطنيّ في القاهرة.
[4] أنظرْ أيضًا ملحق فلسطين، العدد 34 بتاريخ 10/2/1966 بعنوان “في الطريق إلى وحدة أداة الثورة: مع اجتماعات القوى الفلسطينيّة للوصول إلى توحيد النضال الفلسطينيّ.”
[5] . أنظر الموسوعة الفلسطينيّة، مصدر سبق ذكره ، الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ 1968، ص 406.
[6] الموسوعة الفلسطينيّة، مصدر سابق ، ص 410
[7] أنظر صاموئيل سيغيف، الغطاء الأحمر أو حرب الايام الستة، الطبعة العربيّة، ص 79، حيث تُذكر المشتريات العسكريّة، وزيادة مختزنات الذخائر، وصورايخ جوّ-جوّ من طراز ماترا 530 للطيران، وقد حُمّلتْ في ثلاث طائرات بوينغ تابعة لشركة العال.
[8] اختُرع حينها لفظة “متقادِم” (caduc بالفرنسيّة) سببًا لالغاء الميثاق. كما أنّ الرئيسَ الأمريكيّ، بِل كلينتون، اشترط حضورَ المجلس الوطنيّ الفلسطيني الذي عُقدً في غزّة سنة 1996 لإلغائه.
:::::
“الآداب”، 30-04-2021