الأرشيفثقافة وفن

تقديم لكتاب: قضية التطبيع في العالم العربي: الإشكالات وسبل المواجهة، للكاتب العربي المغربي: حسن أولحاج

د وسام الفقعاوي رئيس تحرير مجلة الهدف الفلسطينية:


“بمختلف القراءات والمعايير، كانت اتفاقات التطبيع (الإبراهيمية) التي جرت بين كل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب (ومن سيتبع بعدها من دول عربية)، وما خلقته وجسدته من وقائع راهنة؛ تمثل استهدافًا جادًا وحادًا للوجود وللمسار الوطني والسياسي والحقوقي الفلسطيني وارتباطه بعمقه القومي العربي، بالتواصل والترابط مع ما سبقها من اتفاقات تسوية من كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، ومن يرى إعادتها إلى اتفاقات الهدنة أثناء حرب/نكبة عام 1948 فله هذا، حيث لا يوازي حدث الهزيمة/النكبة، من حيث ما ترتب عليها من وقائع مادية وسياسية مؤلمة ومستمرة في الزمان والمكان، من حيث الأهمية والتأسيس لما جرى باسم الاتفاقات الإبراهيمية أو مسار التسوية إجمالًا، إلا ما حدث سنتي 1916 – 1917، أي اتفاقية سايكس بيكو وتصريح بلفور.
إن هذين الحدثين؛ أقصد سايكس بيكو وتصريح بلفور، يُعدّا نقطة تاريخية – تأسيسية؛ انطلاقًا من فكرة مركزية، ألا وهي الطبيعة التراكمية للأحداث، وأن الحصيلة التاريخية ليست إلا حصيلة تراكمية، وأن نتائج مرحلة ما تُقرر في أحشاء المرحلة التي سبقتها، وعليه هل يمكن أن نكتفي بتسمية ما يجري باتفاقات تطبيع فقط؟ أم هو في جوهره تعبير عن كشف طبيعة وبنية ودور ووظيفة نظام سايكس بيكو العربي في اللحظة التاريخية المحققة؟
ما تقدّم وربطًا بالواقع القائم، يعني أنّ سايكس بيكو، والنظام الذي أنشأه لم يصبح ضربًا من التاريخ، بعد مرحلة ما سُمّي “بالاستقلال” الوطني للدولة العربيّة، خلال خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، فإلى جانب دور الحارس الذي أدّته الدول الاستعمارية – الإمبرياليّة لسايكس بيكو، باتت الكيانات العربيّة، هي من أشدّ حرّاسه أيضًا، إلى جانب الممارسة الواعية والمرسومة لتحفيز كلّ عناصر الانفصال والتمايز والنفور والنزوع القطري الضيّق.
لقد أريد مما تقدم؛ ضمان التبعيّة والإخضاع واستمرار الهيمنة ونهب الثروات، وهو ما أفضى ويفضي حكمًا إلى حجز أو حبس التطوّر وتشويهه، وهذه عمليّةٌ مستمرّةٌ لم تتوقّف يومًا. هنا كان أمام حرّاس الدولة القطريّة الذين ازدادت مصالحهم (الطبقات الكمبرادورية الحاكمة)، كي يحفظوا وجودهم، أن يبقوا أوفياء للحارس الخارجيّ لسايكس بيكو، ممثلًا بالولايات المتحدة الأمريكية والحركة الصهيونية والمنظومة الغربية الاستعمارية – الإمبريالية بالإجمال؛ يستمدّون منهم السند والعون وحماية سلطاتهم من التهديد الداخلي المطلوب مواجهته.
ومن المعروف أيضًا أن الحركةُ الصهيونيّةُ دخلت على خطّ (الدولة القطريّة)؛ مبكرًا وقد يكون منذ بداية تأسيسها، وترجمت ذلك على دفعاتٍ أخطرها، الاتّصالات السريّة التي أدّتها الوكالة اليهوديّة، مع مسؤولين ورجال دين ورؤساء وزراء وآخرين محسوبين على الحركات الوطنية في بلدانها، من: لبنان وسوريا ومصر والسودان والأردن والسعودية وغيرها وتناولت ذلك عشرات الوثائق والمذكّرات والكتب، ومنها: دراسات ماري ولسون، مذكرات الياهو ساسون، ومذكرات الياهو إيلات (ابشتاين) (إسرائيل وجاراتها)، يوميّات أكرم زعيتر، ودراسة (المتاهة اللبنانيّة) لرؤوفين أرلخ، والطائفيّون العرب والحركة الصهيونيّة لـ بني مورس، وكذلك دراسة أمين مصطفى (الاتصالات السريّة العربيّة – الصهيونيّة) ومقالات للكاتب صقر أبو فخر، وغيرهم… وبالتمعّن في المذكّرات والدراسات المذكورة، نجد أن الذين وصفوا برجال الاستقلال في غالبيّة البلدان العربيّة، كانوا قد التقوا ممثّلين عن الوكالة اليهوديّة في ظروفٍ كان المشروعُ الصهيوني فيها واضح الملامح، وكانت موجات المقاومين والمتطوّعين في فلسطين والشرق العربيّ قد دخلت في اشتباكاتٍ مسلّحةٍ مع المستوطنين الأوائل وقوات ورجال الاستعمار البريطاني.
وإذا ما تركنا العنان لقراءةٍ موضوعيّةٍ لعرى العلاقة بين فلسطين وعمقها العربي، سنجد أنّ فلسطين كانت في صفّ من كان في صفّها، وهو ما جعلها طرفًا في الصراع العربيّ – العربيّ، أي في صراع المشروع/الفكرة العربيّة ودعاة التغيير والوحدة مع النظام العربيّ، ومنتجات سايكس بيكو والمستفيدين منه، حيث سعى هؤلاء بالسبل كافةً إلى الفصل بين العمق القومي من ناحية، وبين فلسطين من ناحيةٍ أخرى، بحكم أنّ فلسطين تمثّل صدقيّة ما يمثله أي مشروع قومي جدي، وفي الوقت ذاته الكاشف لتبعية النظام العربي وخضوعه الذي يتحمل مسؤوليّةً كاملةً عن ضياع فلسطين ومصيرها في آن. وعليه؛ تعدّدت السبل التي لجأ إليها النظام العربي لفصل القضيّة القوميّة عن قضيّة فلسطين في مسعى واضحٍ لمنع “لعنة” فلسطين من أن تستمرّ رافعة لعمليّة التغيير في المنطقة.

في كل الأحوال؛ لقد ثبت أنّ العدوّ الصهيونيّ، كان يخوض حربًا شاملةً ومركبة؛ إذ قامت استراتيجيّته على شنّ حروبٍ متعددة المرامي والأهداف والأشكال على جبهاتٍ مختلفة، والاستثمار بها سياسيًّا على الصعيد العربيّ والفلسطينيّ منه، وبما يحقّق أهدافه في التمدّد والسيطرة، واستمرار التفوّق والهيمنة، بما يعني استكمال أهداف المشروع الصهيونيّ، الذي لم يرَ ويتعامل مع كلّ المحطّات التي سبقت عام 1993، إلا بوصفها محطّاتٍ غيرَ مكتملةٍ وغيرَ نهائية، وما عام 93 – توقيع اتفاق أوسلو – سوى محطّة فاصلة في سياسةٍ دائمةٍ.
مما تقدّم يتّضح، أنّنا كنا طوال الوقت أمام حلقات استكمال لحربٍ سياسيّةٍ فعليّةٍ طويلة – من على قاعدة الاتّفاقات الموقّعة مع الفلسطينيّين – كانت أهدافُها اللاحقة، إن وفقًا لمنطق الأمور، أو كما دلّت التجربة الحسيّة المُعاشة – الانكباب على التطبيع – استكمال حلقات ضربَ العمق العربي، وتهيئة المقدمات المطلوبة لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وهذا ما يجب أن يكون واضحًا وبدقّة، إذا أردنا عدم تضييع الخطّ الرئيسي للصراع، ورؤية الاستراتيجية الشاملة من مباشرةٍ وغير مباشرةٍ، التي لجأ إليها العدوّ الصهيونيّ وحلفاؤه.
ومما تقدم يتضح أيضًا، أن المشروع الصهيوني امتلك ديناميكيّة عالية الفعاليّة؛ تعود أساسًا إلى ارتفاع مستوى المؤسّسة التي رعت وأدارت المشروع، سواءً أكانت نخبةً قياديّةً، أو نظامَ عمل وآليّات، أو رؤيةً، وقوّة دفع أيديولوجي، وإلى خبرةٍ تاريخيّةٍ تأسَّسَ لها مع انعقادِ المؤتمرِ الصهيوني الأوّل قبل خمسينَ عامًا من إقامة “دولة العدو” التي تقرّرت فيه، وأيضًا إلى تحالفاتٍ دائمةٍ واستراتيجيةٍ شكلت له حاضنًا وداعمًا وحاميًا.
فإذا كانت هذهِ هي الصورةُ للمشروع المعادي، حيث جمع بين ميزانِ قوًى مختلٍّ لصالحِهِ، وبين الخبرة التاريخيّة التي وضعته في مكانٍ متقدّمٍ في إدارة الصراع، ومؤسّسة عالية المستوى؛ فإنّ الصورة على الجانب الآخر؛ العربي – الفلسطيني، كانت مختلفةً كليًّا، سواءً من حيث المؤسسة أو الخبرة التاريخيّة، وما يرتبط بهما من عوامل تحشيد القوّة الماديّة، إلّا ما امتلكه من المشروعيّةِ التاريخيّةِ والأخلاقيّة، بما لها من أهميّة حاسمة في تأسيس الصراع وإدامتِه، ولكنّها تبقى بحاجة إلى العوامل التي تجعلها تحقّق ذاتَها، وهذا ما افتقدته، وما تزال تفتقدُه.
إنّنا بحاجة – فعلًا – إلى قراءةٍ فكريّةٍ – منهجيّةٍ، تستند لمنهجٍ تاريخيٍ نقديٍ، تمكّننا من الخروج بما ينفعُ الحاضر والمستقبل، من خلال الاستفادةِ من الدروس الثمينة والكبيرِ جدًّا، حتى للهزائم التي لحقت بها، فهي خيرُ كاشفٍ لمكامن النقص، والخلل، والخطأ الذي كان سببًا فيها. وعليه؛ نحن بحاجةٍ إلى قراءةٍ تفصيليّةٍ تفرزُ الصوابَ عن الخطأ، وتقرأ أحداثَ تاريخِنا وتجرِبتِنا برويّةٍ ورفقٍ وصدقٍ؛ منطلِقةً من مشروعيّةِ نضالنا الوطنيّ وأخلاقيّاته وعمقه القومي والإسلامي والأممي، والهدفِ الذي نسعى إلى تحقيقِه: هو التحرير والعودة والاستقلال والوحدة وليس إيجاد حلول تثبت أركان العدو فوق أرضنا وعلى حساب وجودنا، وهنا تأتي الدراسة المهمة التي بين أيدينا للصديق الكاتب المُثابر/ حسن أولحاج، والذي سَبرَ من خلالها أغوار البعد التاريخي لمسألة التطبيع، بأبعاده الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ووضع من خلال كتابه القيّم هذا، ما يعين القارئ العربي ومنه الفلسطيني وكل مهتم بقضية التحرر الوطني للشعب الفلسطيني والأمة العربية، وربما أبعد من ذلك، على فهم عميق لهذه المسألة/القضية الخطيرة، بما يجعلنا أكثر قدرة على مواجهتها والتصدي لأهدافها التصفوية لحقوق وأهداف الشعب الفلسطيني والأمة العربية في التحرر والانعتاق والتقدم والديمقراطية والوحدة”.

https://www.facebook.com/hassan.oulhaj.520/posts/513975510579456