الأرشيفعربي وعالمي

النظرية الاقتصادية القاسمية – الأستاذ الدكتور عبد الستار قاسم

 الاقتصاد السياسي: النمو والعدالة في مواجهة قمار وخداع الرأسمالية الليبرالية الحديثة

هذا العمل  مقطوعة فكرية وليس بحثا ، وهو اجتهاد الكاتب حول التحرر من الرأسمالية الليبرالية الحديثة والأزمات التي تسببها على المستوى العالمي والمستويات المحلية.

الرأسمالية التحررية (الليبرالية) الحديثة هي عنوان مرحلة العولمة الأمريكية الهادفة إلى تشكيل النظامين السياسي والاقتصادي لدى مختلف الدول والمجتمعات وفق الرؤية الأمريكية لما يجب أن تكون عليه الأمور. عملت الولايات المتحدة الأمريكية مع دول غربية أخرى على ترسيخ النظام الرأسمالي على المستوى العالمي إبان الحرب الباردة بالتي هي أحسن، لكن المقاربة اختلفت مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وأخذت أمريكا تعمل بهذا الاتجاه ليس بالتي هي أحسن وإنما بالتي هي أسوأ. أخذت أمريكا تستعمل قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية من أجل تشكيل الوضعين السياسي والاقتصادي خارجيا، ومن ثم تشكيل الوضعين التربوي والثقافي بحيث تصبح الشعوب أمريكية بالثقافة والتربية.

هذه نقلة نوعية وجديدة في تشكيل الاستعمار. فبعد الاستعمار التقليدي، والاستعمار بدون القوة العسكرية (الامبريالية)، تنتقل أمريكا إلى ممارسة الاستعمار تربويا وثقافيا وفكريا، أو إحلال الذات الأمريكية في النفوس بوسائل تربوية وفكرية ومالية. وقد جندت أمريكا قوى كثيرة متوفرة لديها من أجل تحقيق الهدف، وأخذت تستعمل مؤسسات دولية بطريقتها الخاصة وفق استراتيجيتها في الهيمنة على العالم مثل المؤسسات المالية ومنظمة التجارة العالمية. واستخدمت أموالها من أجل استقطاب مثقفين وأكاديميين وشخصيات مؤثرة في مجتمعاتها لتتبنى الفكرة الأمريكية وتروج لها مقابل المال.  وقد استجابت مجموعات من المثقفين والأكاديميين للرغبة الأمريكية، وانحنت أغلب الدول أمام الرغبة الأمريكية في إقامة العديد من المنظمات غير الحكومية التي تتبنى الطروحات الأمريكية بطرق تربوية وثقافية.

قالت أمريكا إنه قد ثبت أن نظامها السياسي الديمقراطي ونظامها الرأسمالي الحديث هما أفضل نظامين للإنسانية، وإن التطور الإنساني تاريخيا قد سار بهذا الاتجاه حتى استقر وتحققت نهاية التاريخ. لقد جربت الأمم أنظمة متعددة عبر الزمن، ولم يصمد منها إلا الأصلح. وذهبت أمريكا، على لسان عدد من مفكريها، إلى أبعد من ذلك بحيث قالت إنها هي التي تملك الحقيقة المطلقة التي ليس بعدها حقيقة، والتي يعبر عنها النظامان الاقتصادي والسياسي الأمريكيان، وإن كل الذين ينشدون الرخاء والطمأنينة لا بد أن يختاروا في النهاية هذه الحقيقة. وهذه معضلة فكرية صعبة للغاية لأن مثل هذا الطرح الفكري لا يمكن إلا أن يؤدي إلى الاقتتال بين الأمم، ور مفر ينتهي إلى هيمنة واستبداد غير مقبولين لدى شعوب كثيرة. الحقيقة المطلقة تائهة، ولم ينته ادعاء امتلاكها إلا إلى حروب داخلية وحروب ونزاعات بين الأمم. فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة ملازمة للاستبداد والهيمنة واستغلال الشعوب والعمل على إخضاعها. ومن يدعي امتلاكها يفترض مسبقا أن كل الأمم الأخرى والفلسفات والنظريات باطلة، ولا تستقيم الأمور إلا بتبني هذه الحقيقة.

لم تنتظر أمريكا الأمم لكي تختار الحقيقة المطلقة، وأخذت تتبع سياسة إغرائية وإرهابية وإرعابية من أجل حث الدول على تبني النظام الديمقراطي وفق المقاييس الأمريكية، والرأسمالية الليبرالية الحديثة. نشرت أمريكا آلاف المنظمات غير الحكومية للترويج لأفكارها، وقدمت مساعدات لدول لكي تتبنى ما تطرح، وهددت دولا، وحاصرت أخرى، وشنت حروبا دموية، وتمخترت كثيرا مزهوة بعضلاتها العسكرية والمالية.

ربما ظنت أمريكا أنها ستعيد تجربة روما فيطول أمد حكمها، وتتربع على عرش العالم قرونا طويلة. لكن تجربتها لم تكن على مستوى ذكاء تجربة روما، وسرعان ما وجدت نفسها مصطدمة بإخفاقات جعلتها تتقلص في نظر العالم، وتقلص معها طرحها الفكري وجرأتها على المس بسيادة الدول. أصيبت الولايات المتحدة بإحباطات متتالية على المستويات العسكرية والأمنية والفكرية، وجاءت الأزمة المالية العالمية عام 2008 لتشكل ضربة قاسية جدا للطموحات الأمريكية وفكرة الرأسمالية التحررية (الليبرالية) الحديثة.

في هذه الورقة أناقش العلة الأساسية في فكرة الرأسمالية التحررية الحديثة، وصعوبة نجاحها في تحقيق الأمن الاقتصادي والمالي للأمم، وبث الطمأنينة في نفوس الفقراء الذين يتطلعون دوما نحو تحقيق العدالة، أو الإنصاف على الأقل؛ ومن ثم أطرح مشروع حل للأزمات المالية والاقتصادية التي تتسبب بها الرأسمالية الليبرالية الحديثة وتهدد استقرار العالم وأمنه . إنها أزمات ذات جذور أخلاقية وسياسية نابعة من الطمع والجشع والرغبة في سلب ثروات الآخرين.

هَوّس الأرباح

 حمّل ماركس في نظريته الاقتصادية مسؤولية صراع الطبقات وما يرافقه من استغلال للطبقة العاملة واغتراب الإنسان للملكية الخاصة، والتي وصفها بأنها هي مصدر الشر وأصل السلوك الاستغلالي الذي عانى منه الإنسان على مر القرون. قال إن الملكية الخاصة تدفع صاحبها باستمرار نحو تنميتها ولو على حساب الآخرين، وكلما تراكمت تراكم معها الجشع واستغلال الإنسان. وقد تحداه كتاب ومنظرون اقتصاديون كثر، وقالوا إن الملكية الخاصة تشكل حافزا للنشاط والعمل، وإن المرء يبذل جهدا أكبر عندما يعمل لمصلحته الخاصة، في حين إنه يتراخى عندما يعمل في مصلحة عامة، أو لمصلحة عامة. قال نقاده إن الملكية الخاصة تشكل حافزا كبيرا للنشاط الإنساني، بينما تثبط الملكية العامة النشاط الإنساني، وتتسم بمعدل إنتاج متواضع أو هابط.

لدى ماركس نقطة قوية، ولدى خصومه نقطة قوية أيضا. ماركس قوي في حرصه على تحرير الإنسان من الاستغلال، وخصومه أقوياء من حيث توصيفهم للدافع الإنساني نحو العمل. وأرى أن العلة الحقيقية ليست في الملكية الخاصة بالتحديد، وإنما في الفكرة الربحية الكامنة فيها. وهي العلة التي أغفلها نقاد ماركس فأبقوا على الإنسان مستغِلا أو مستغَلا.

الهدف المبني في الملكية الخاصة في الرأسمالية هو تحقيق الأرباح، وإذا غابت الأرباح غاب الحافز للعمل، أو للاستمرار في الإنتاج أو تقديم الخدمات. وإذا كانت الرأسمالية المحلية (المقتصرة على دولة واحدة) تشهد نوعا من التنافس الذي من شأنه أن يحد من المغالاة في إدرار الأرباح، فإن الرأسمالية التحررية الحديثة تطلق العنان للشهوة الربحية وتتركها بدون كوابح. وهنا في اعتقادي الفكرة التي لم يعبر عنها ماركس بوضوح وهي أن هناك فرقا شاسعا بين الأكل من أجل العيش، والعيش من أجل الأكل. من الطبيعي أن يعمل الإنسان من أجل أن يأكل لأن الأكل حاجة طبيعية، وبين من يأكل حتى التخمة، أو حتى تكديس الطعام. من المفهوم أن يعمل الإنسان من أجل أن يكسب رزقا، وهذا أمر طبيعي، لكن العمل المستمر باتجاه تحقيق الأرباح فهو عملية مكتسبة. كسب الرزق والذي هو أرباح عبارة عن عملية طبيعية لأن البحث عن سبل الوفاء بالحاجات الطبيعية مثل الطعام يتطلب ذلك، لكن السعي نحو مراكمة الأرباح مكتسب.

الرأسمالية مبنية على مراكمة الأرباح وليس على كسب الرزق، ومراكمة الأرباح تشكل الهدف النهائي الذي يسعى إليه الرأسمالي. هنا أوضح أن السعي نحو تحقيق الأرباح ليس عيبا أو نقيصة، لكن السعي نحو مراكمة الأرباح قد ينطوي على أساليب ووسائل تؤذي الآخرين أو تسلبهم أموالهم. الرأسمالية ليست نظاما يحرص على الإنتاج بهدف توفير الاكتفاء الذاتي والتدرج في تحسين الظروف المعيشية للناس، والرقي بالحياة الاقتصادية للإنسان بوجهيها الاستهلاكي والاستثماري، وإنما نظام يحرص على تحقيق الأرباح ليحقق جباتها مستويات من الرفاه والسيطرة لا يصلها عامة الناس. والأرباح لا سقف لها ولا حدود، وكلما حقق الرأسمالي ربحا تطلع إلى ربح آخر؛ وما عليه إلا أن يبقى مستنفرا باحثا عن مختلف الوسائل والأساليب الممكنة لتحقيق مزيد من الأرباح. إنه جشع، ولا حدود لجشعه، وهو لا يعبر عن اكتفائه الربحي إلا إذا كان عاجزا عن تحقيق المزيد من الأرباح.

التطوير الاقتصادي بالنسبة للرأسمالية عبارة عن نتيجة وليس هدفا. إنه نتيجة لسعي الأفراد لتحقيق أكبر كمية من الأرباح، فهم يعملون ويجدون ويقيمون المعامل والمصانع والمزارع ويوفرون الخدمات بسبب قناعتهم بأن في ذلك ما يحقق الأرباح. وبما أن الهدف هو الأرباح فإن القيمة الإنسانية الناجمة عن النشاط الاقتصادي ثانوية ومترتبة وليست أصيلة. أي أن الإقبال على النشاط الاقتصادي ليس بهدف إنساني أو بهدف الرقي بالدولة أو الأمة ككل، أو بدافع إنساني وإنما بهدف خدمة المصلحة الخاصة، هذه النقطة من أهم أسس الرأسمالية. فلو لم تكن الأرباح هي الغاية لما كان السعي الحثيث نحو المشاريع التي تحقق أرباحا.

هذا ينسجم تماما مع مبدأ الفردية التي تنطلق منها الرأسمالية، والتي تقول إن سعي الفرد لتحقيق مصالحه يؤدي إلى تحقيق مصالح جماعية. أي أن الجماعية عبارة عن نتاج، وليست أحد مكونات الشخصية الإنسانية، وهي تتبلور على هامش السلوك الفردي.

ما يترتب على المصلحة الخاصة من قيم إنسانية يختلف كثيرا عن القيم الإنسانية التي تترتب على سلوك موجه نحو هدف عام. قد تؤدي الأنانية إلى التطوير الاقتصادي وتحسين الدخول، لكن القيم المترتبة على ذلك تختلف عن القيم التي تترتب على تحقيق تطوير اقتصادي كهدف أصيل وعام. ربما يتحقق التطوير الاقتصادي في الحالتين، لكن الترتيب الأخلاقي والاجتماعي الناجم عن كليهما ليس واحدا. إذا كان الهدف هو تحقيق الأرباح فإنه لا مانع من تجاهل قيم إنسانية أو التحايل عليها أو مخالفتها إذا كان ذلك في مصلحة ربحية.

مراكمة الأرباح قيمة عليا

مراكمة الأرباح هي القيمة العليا في الرأسمالية، فهي المقياس الذي تقاس وفقه أو حسبه مختلف القيم. القيم تبقى ذات شأن إذا ترتبت عليها أرباح، وهي لا قيمة لها وتلقى في المهملات إذا لم تترتب عليها أرباح، أو إذا كان التمسك بها يؤدي إلى انخفاض في الأرباح. الصدق فضيلة في الرأسمالية لأن الصفقات التجارية والمالية والوعود التجارية تتعطل بدونه، وكذلك الوفاء بالالتزامات المالية والتزويدية والنقلية، الخ. والزنا والعهر عبارة عن فضيلة أيضا لأن الاشتغال بالدعارة يدر أرباحا طائلة، أما العفاف فلا يحظى بقيم عليا بسبب آثاره السلبية على بعض النشاطات التجارية. الوفاء بالوعد عبارة عن فضيلة أيضا لأنه يوفر الوقت ويسهل العمل الاقتصادي والمالي، أما العناية الشخصية المباشرة بالأب والأم المسنين فليست من الفضائل لأنها تؤثر سلبا على الإنجازات الربحية.

لا نغفل بالطبع عن أن للإنسان حاجات ومتطلبات غير الأرباح، وربما هي التي تدفعه بالطبيعة نحو السعي والبحث عن الطعام والمأوى والكساء. هناك دافع طبيعي أو أحيائي (بيولوجي) نحو بعض النشاط الاقتصادي الذي يدر رزقا (ربحا)، لكن الحديث هنا هو حول تحقيق أرباح تضع الأفراد في حالة اقتصادية ومالية متميزة، إنه حديث يتخطى مسألة الاكتفاء والنمو الاقتصادي الذي يعم خيره على الجميع بصورة عامة. الإنسان يسعى لتحصيل لقمة الخبز ولتحسين ظروفه المعيشية، وجعل حياته أقل شقاء وأكثر بحبوحة ورخاء، لكن المنطق الإنساني يغيب عندما يتحول النشاط الاقتصادي إلى أرباح تتضمن استغلال الآخرين، وتحقيق حياة ترف تتغذى على راحة الآخرين ونصيبهم المادي.

ما الذي يدفع شركة رأسمالية ضخمة إلى بناء مصانع لها في الهند أو باكستان؟ الأرباح. الأيدي العاملة في الهند رخيصة مقارنة بالأجور في الولايات المتحدة، وتكاليف إنتاج ذات السلعة في الهند أقل بكثير منها في الولايات المتحدة؛ وما دامت الأرباح هي الغاية فإن الشركة لا يهمها طرد عمالها الأمريكيين في سبيل جني أرباح أكثر من خلال تشغيل عمال هنود. استغلال الإنسان الذي يقبل بالأجر القليل بسبب حاجته، وتعذيب الإنسان الذي يُطرد من عمله لا يعني شيئا بالنسبة للباحث عن الأرباح.

النشاط الاقتصادي في الرأسمالية التحررية الحديثة لا قيمة له ما لم يتمخض عن أرباح، حتى لو كان ضروريا لتلبية حاجة أو احتياج إنساني. وحسب ذات المنطق، إذا كان بالإمكان تحقيق أرباح بدون نشاط اقتصادي فلا مانع. قيمة النشاط الاقتصادي نابعة من الأرباح، والأرباح تعطي الأنشطة غير الاقتصادية قيمة عليا. إذا كانت زراعة القمح ضرورية من أجل أن تقف الدولة على أقدامها في مواجهة حصار اقتصادي خارجي فإن الرأسمالي لا يقدم على ذلك إذا كانت الأرباح المتوقعة أقل من المطلوب، أو إذا كان هناك فرص بديلة تدر أرباحا أكثر؛ وإذا كان الكذب وسيلة جيدة لتحقيق أرباح سريعة فإن الرأسمالي سيقدم على ذلك إذا اطمأن أن القانون لا يطاله.

بالنسبة للرأسمالي، الأرباح هي التي تحدد معنى كل من الخير والشر. ما يؤدي إلى جني الأرباح خير، وما لا يؤدي إلى أرباح، أو يؤدي إلى خسائر شر. الخير والشر بالنسبة له غير مرتبطين بمعايير إنسانية أو بأبعاد أخلاقية ذات بعد إنساني عام، وإنما ببعد مادي واضح وهو الأرباح. إنه يقدم على النشاطات التي تدر أرباحا، ويبتعد عن النشاطات التي تؤدي إلى لا-أرباح أو خسائر. إلهه هو الأرباح، ونبيه الأرباح، والدنيا من حوله تتم ترجمتها وفق معيار الربح والخسارة. وهذا لا يتناقض مع نشاطات الإحسان التي يقوم بها أثرياء لأن هذه النشاطات تساهم في تعزيز الأدوار الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية للمحسنين. ذلك دون أن ننكر احتمال الإحسان لوجه الله. أي أن التعميم عن الأرباح هنا ليس بالمطلق، وإنما ليس بعيدا عن المطلق.

 حقوق الإنسان

قفزت مسألة حقوق الإنسان على المستوى العالمي إلى الواجهة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وحملتها الدول الغربية وعلى راسها الولايات المتحدة ووسائل إعلامها. تكثف الحديث عن حقوق الإنسان، وحملت الولايات المتحدة لواء الدفاع عن الناس في مختلف أنحاء العالم ضد الاستبداد والقمع ونهب الثروات والاستغلال والملاحقات التي يتعرض لها المعارضون للحكومات. وأخذت وسائل الإعلام العالمية بالتويج للأفكار الأمريكية الخاصة بتحرير الشعوب، وملاحقة الاستبداديين والنظريات الكلية التي تحرم الشعوب من حرياتها وأرزاقها. وبدأت أمريكا تتوعد بعض الحكام المستبدين، وتعد شعوبا بمستقبل أفضل. وأخذت تستعمل أساليب ووسائل متعددة ضد بعض الطغاة المستبدين، ووصل بها الأمر إلى حد استعمال العقوبات الاقتصادية على بعض أنظمة الاستبداد وشن الحروب. وقد ظهرت أمريكا بخاصة لدى بعض الشعوب التي عانت من الاضطهاد والقمع والاستغلال، على الرغم من أن سياساتها في هذا الصدد كانت انتقائية. بمعنى أنها ابتعدت عن الضغط على أنظمة الاستبداد الموالية لها مثل أنظمة الخليج، وعملت بجد واجتهاد ضد الأنظمة غير المتساوقة معها مثل العراق وإيران.

نالت أمريكا استحسان بعض الشعوب، وحازت على ثقة بعضها والتي اعتقدت أن أمريكا هي المسيح المخلص. لكن هذه الثقة لم تصمد طويلا بسبب عدم ق4درة أمريكا على الإقناع طويل الأمد. هي أقنعت الناس مؤقتا، لكنها لا تستطيع وفق نظريتها الربحية أن توسع جهودها لتشمل دولا وأنظمة سياسية تدر لها أرباحا وكأنها البقرة الحلوب.

أمريكا لم تكترث بنتائج انتخابات الجزائر المحلية لأن النتائج لم تكن وفق تطلعاتها ومصالحها. وهي رفضت نتائج الانتخابات الفلسطينية عام 2006 لأن الفائزين لا يتبنون طرحها الخاص بحل القضية الفلسطينية. ولم تكترث بالانقلاب الذي حصل في مصر ضد نتائج الانتخابات التي أتت بمحمد مرسي رئيسا لمصر. وهي لم تعترف بنتائج الانتخابات في إيران وفنزويلا وغيرهما. أي أن أمريكا لم تثبت أنها تدافع عن الديمقراطية الغربية وأن المسألة بالنسبة لها مسألة مبدأ. أمريكا أثبتت أن مواقفها تنبع من المصالح وليس من المبادئ.

ومن المؤكد أيضا أن أمريكا لم تثبت أنها تدافع عن حقوق الإنسان وإنما استعملت مسألة حقوق الإنسان استعمالا سياسيا وليس أخلاقيا. المفروض أن الحفاظ على حقوق الإنسان خاضعة لمعايير أخلاقية ثابتة لا يمكن القفز عنها أو تجاهلها.، لكن أمريكا تجاهلت حقوق الإنسان في العديد من الدول. فمثلا، لم تدافع عن حقوق الإنسان في السعودية والإمارات العربية ومصر وعدد آخر من البلدان العربية. هي تحدثت عن حقوق الإنسان في العراق وسوريا لأنهما غير مرضيين أمريكيا. واستمرت أمريكا في عدائها للشعب الفلسطيني على الرغم من وجود ملايين اللاجئين الفلسطينيين في دول عديدة. حتى هي لا تعترف بأن هناك لاجئين فلسطينيين. حتى أنها لم تحرص على حقوق الإنسان في الداخل الأمريكي، واستمرت عملية التمييز ضد السود والناس ذوي الأصول اللاتينية. وبسبب عنصريتها، عملت على إقامة جدار بينها وبين المكسيك.

الرأسمالية الليبرالية الحديثة تهتم بالإنسان إذا كان في ذلك ما يدر أرباحا، وهي تتجاهل الإنسان إذا كان الدفاع عنه يسبب خسائرا. الإنسان بالنسبة للذين يتبنونها هدف سياسي وليس هدفا أخلاقيا. المعايير الأخلاقية تتراجع أمام المعايير السياسية التي هي ذات صبغة ربحية.

وعليه، كان من المفروض أن ينتبه الناس جميعا وبخاصة المثقفين منهم أن طرح الدفاع عن حقوق الإنسان لا يتناغم أبدا مع هدف الرأسمالية الليبرالية الحديثة. وعندما تتعارض السياسة مع الأخلاق فإن الأخلاق تُزاح جانبا لصالح المصالح. لم تكن الدول الاستعمارية الرأسمالية جادة أبدا في تبني حقوق الإنسان من الناحية الأخلاقية، وإنما استعملت هذا الطرح الإعلامي لأهداف سياسية. هي تطلعت إلى ملاحقة خصومها من خلال استعمال قضايا حقوق الإنسان وليس بهدف خدمة الإنسان والرقي بالمجتمعات الإنسانية. أي أن الإنسان بالنسبة لها وحريته وراحته لم يكونوا هدفا، وإنما الإنسان كان أداة لتحقيق الأرباح، أو إبعاد الخصوم وما يمكن أن يصنعوه لعرقلة استغلالها للآخرين.

قانون التنافس وقانون الاستغلال

أيقنت الدول الرأسمالية الغربية مدى جشاعة الرأسمالية إثر الكساد الاقتصادي عام 1929. انهار النظام الاقتصادي الذي كان قائما على استبعاد التدخل في آلية السوق، وقررت الحكومات التدخل من أجل ضبط الوضع من ناحية التدخل الحكومي ماليا ونقديا، ومن ناحية وضع قوانين للتنافس ومنع الاحتكار. نجحت هذه الدول إلى حد كبير في استعادة النشاط الاقتصادي، وأخذت الأوضاع الاقتصادية على المستويات المحلية في مختلف الدول الرأسمالية تتحسن.

استطاعت الرأسمالية أن تتجاوز المشاكل التي نجمت عن الكساد العظيم لعام 1929، واستطاعت أن تعالج الأسباب المحلية التي أدت إلى ذلك. وقد حققت الرأسمالية تقدما علميا جبارا، وحققت مستويات تقنية عالية ومتصاعدة، وأنجزت أيضا نموا اقتصاديا كبيرا انعكس على حياة الناس وظروفهم المعيشية. اتسعت الطبقة الوسطى في الدول الرأسمالية، وتقلص حجم الطبقة الفقيرة، وتحسن الوضع الاستهلاكي، وأصبحت الحياة المعيشية أكثر سهولة ويسرا بسبب ما قدمته التقنية من أدوات ووسائل بيتية خاصة بالطهي والتنظيف والإنارة والتدفئة، وأصبحت الحياة إجمالا أكثر راحة واسترخاء ورفاهية.

إنما علينا ألا نغفل السلبيات التي ترتبت على التقدم التقني من حيث أن آلات الحرب والدمار قد تطورت، وشهد العالم سباقا للتسلح وإنتاج أسلحة التدمير والدمار. لقد تم استغلال الاكتشافات العلمية في تطوير اختراعات الهيمنة على الشعوب، وبث الرعب والإرهاب في مختلف أنحاء العالم، وتصدرت الدول الرأسمالية قائمة الدول التي تسعى إلى تنمية قدراتها العسكرية، والتي تعمل على السيطرة على ثروات العالم وإرادات الدول.

شكل عنصر الحوافز الشخصية أحد أهم أسس انطلاق الرأسمالية نحو مزيد من النشاط والتقدم. يبدو من الناحية التاريخية على الأقل، أن الرأسمالية قد تجاوبت مع سلوك إنساني واضح يتمثل في حرص الإنسان على مصلحته الخاصة أكثر من حرصه على المصلحة العامة. واضح تاريخيا أن استعداد الإنسان ليكد ويتعب في مصلحته الخاصة أشد من استعداده ليكد ويتعب في مصلحة عامة. من المحتمل أن يكون هناك أناس لديهم التزام تجاه المصلحة العامة أشد من التزامهم تجاه المصلحة الخاصة، لكن هؤلاء لا يشكلون القاعدة العامة التي ميزت سيرة الإنسان وتاريخ الأمم. هناك من يقول إن حرص الإنسان على مصلحته الخاصة عبارة عن نزعة طبيعية فطرية، بينما حرصه على المصلحة العامة مرتبط بالعوامل التربوية؛ ولهذا نراه مجدا ومجتهدا في مصلحته الخاصة، ومتهاونا في المصلحة العامة. هذا قول لا نستطيع إثباته، لكننا نستطيع أن نستنتج من تجارب الأمم أن العوامل التربوية تلعب دورا هاما في الحرص على المصالح.

المهم أن الحوافز لعبت دورا كبيرا في التقدم العلمي والاقتصادي والتقني لدى الرأسمالية، وما زالت تلعب هذا الدور. وقد عززت الرأسمالية هذا العنصر بعناصر أخرى على رأسها القيم المقننة التي من شأنها حماية النظام التداولي الرأسمالي من الكثير (وليس من كل) من أساليب النصب والاحتيال والتزوير والتقليد، الخ. رأت الرأسمالية أن الاعتماد على الضمير الإنساني لا يكفي لنجاح النظام الرأسمالي فعملت على سن قوانين تفصيلية تمس مختلف نشاطات الحياة؛ وأقامت نظاما قضائيا راقيا يفضُل مختلف أنظمة القضاء التي سادت العالم في العصر الحديث.

تشير مختلف الإحصاءات على مدى أكثر من مائة عام إلى أن إنجازات كبيرة قد تحققت في ظل الرأسمالية مثل النهوض العلمي والتقدم الصحي، وتحسن المستوى الاستهلاكي للعالم، وتطور وسائل الاتصال والمواصلات. الجامعات تنتشر في كل أنحاء العالم، والمختبرات العالمية ومراكز الأبحاث تنتشر، وكذلك المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية. تحسن مستوى التغذية، وارتفع متوسط عمر الإنسان، وتطورت برامج الرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وتطور القضاء، وتحسنت ظروف المرأة والطفل وحقوق الإنسان. لقد تم تحقيق إنجازات كثيرة في ظل الرأسمالية، وهذا يعبر عن تجارب مهمة جدا لا بد من الاستفادة منها، إنما دون أن نغفل عن أن كل هذه التطورات والتحسينات لم تكن نتاج مبدأ بقدر ما كانت نتاج القيم الربحية.

قانون التنافس هو أهم القوانين الرأسمالية على الإطلاق لأنه ينظم العلاقات الرأسمالية، ويمنع الاحتكارات إلى حد كبير، ويحافظ نسبيا بالتفاعل مع قوانين العرض والطلب على مصلحة المستهلك والرأسمالي الصغير. كان من أهم صفات الرأسمالية التهام الرأسمال الصغير أو الضعيف من قبل الرأسمال الكبير، لكن قوانين التنافس قد حدت إلى درجة ما من غلواء هذه القسوة. عملت الدول الرأسمالية على سن قوانين تشجع التنافس، وتراقب عملية التلاعب بالأسعار والتكاليف حتى لا تضيق السوق وتصبح ملكا لبعض الرأسماليين الكبار. أي أنها وفرت نوعا من الحماية للمنتجين، أو مقدمي الخدمات الصغار. باختصار، حدت الرأسمالية بعد الكساد العظيم من صلف وجشع الرأسمالية التي كانت تقوم على العمل الحر الذي يرفض كل تدخل حكومي.

لكن علينا أن ننتبه أن القوي، من الناحية التاريخية كما هي لدى الرأسمالية، هو الذي يضع القانون؛ وغالبا ما يعكس القانون مصلحة القوي. وقد اعتادت الإنسانية على أن القوي هو الذي يضع القانون وينفذه، وكلما تعارض القانون مع مصلحة القوي يجد القانون طريقا إلى التعطيل من خلال التعديل أو إعادة التفسير أو التجاهل أو الإلغاء. القوة الأكبر في الرأسمالية تقع بيد الرأسماليين الكبار الذين يملكون الثروات الهائلة، وتقع ثانيا بيد وسائل الإعلام والتي يملكها رأسماليون، ومن ثم بيد السياسيين الذين يأتون في الغالب من الطبقات أو الفئات الثرية المتنفذة.

يتحد في الدول الرأسمالية التي تصف نفسها بالديمقراطية الثالوث: الرأسماليون الكبار ووسائل الإعلام والسياسيون. الرأسماليون الكبار أصحاب نفوذ وسطوة بسبب ما يملكونه من أموال، وهم أصحاب الوكالات الإعلامية الكبيرة، ومحطات التلفاز الضخمة، والصحف الشهيرة، وهم أيضا الذين يملكون المال الذي يمكنهم من تغذية الحملات الانتخابية سواء على المستوى الرئاسي أو المستوى التشريعي، أو حتى على مستوى المجالس البلدية. المال له بريقه، والناس بصورة عامة يلهثون وراءه، والإعلام عبارة عن سيف مسلط ووسيلة هامة في صياغة آراء الناس وتوليد الأفكار لديهم. أما السياسيون فهم سادة التشريع والتنفيذ: هم الذين يضعون القوانين والتشريعات، وهم الذين يديرون مختلف الأجهزة الإدارية والتنفيذية للدولة. إن لم يكن هؤلاء السياسيون من أصحاب المال، فإنهم يحصلون على تمويل دعاياتهم الانتخابية من أصحاب المال، إلا ما ندر. هذا الثالوث هو الذي يحكم، وهو الذي يقرر للناس في مختلف مجالات الحياة، إنما بدون ضجة وبدون مظاهر استبدادية.

حدت القوانين الرأسمالية من الاستغلال، ووضعت الأرباح إلى حد كبير ضمن معادلات محددة تتم مراقبتها من خلال الآليات الرسمية التي تم فرضها، ومن خلال آلية السوق القائمة على التنافس. ومن حيث أن الأرباح هي المحرك الأول للرأسمالي والغاية النهائية لمختلف نشاطاته الاقتصادية والمالية، كان من الضروري تطوير أفكار جديدة يؤدي تطبيقها إلى جمع أرباح إضافية. لم يعد الرأسمالي مكتفيا بالأرباح التي تتيحها السوق المقننة، وعمل على البحث عن ثغرات ينفذ من خلالها لإشباع نهمه وجشعه. كان ذلك من خلال آليات تقع على رأسها المضاربات أو القمار، والخداع.

الخداع

يقوم الخداع في العالم الرأسمالي على مبدأين أساسيين وهما: فتح الشهية للاستهلاك وإحداث خلل بين الخدمات والإنتاج وذلك بهدف رفع مستوى الإنفاق أو الشراء، والاستمرار في البحث عن مصادر تمويل تكاليف الخدمات. إن أهم ما يركز عليه الرأسمالي هو زيادة مبيعاته على مستويي السلع والخدمات باستمرار لما في ذلك من أرباح، وعينه دائما على المستهلك الذي تشكل نشاطاته الشرائية الضمانة الوحيدة لتحقيق الهدف.

يتفنن العالم الرأسمالي بفنون التسويق وبطرق فتح شهية المستهلكين، وطور فنا اسمه فن التسويق، وهدفه الأساسي هو ترويج البضائع والخدمات، أو تحقيق أكبر قدر من المبيعات. تطورت أساليب الدعاية والإعلان، وتطور فن التغليف والزخرفة، وتطورت أساليب إقناع المستهلكين بالشراء. بدأت الشركات توظف نسبا متصاعدة من ميزانياتها لصالح أعمال الدعاية والإعلان، وأخذت تتسابق على توظيف محترفي فنون التسويق والدعاية.

ظهرت النساء الجميلات اللامعات على شاشات التلفاز وهن يروجن للغسالة والبراد وفرن الغاز والشامبو والصابون ومكيف الهواء وأنواع الشوكولاته وأنواع معاجين الأسنان والعطور وطلاء الأظافر وتسريحات الشعر والملابس، وظهرت فضائيات متخصصة بالتسويق والترويج للبضائع. كرس الرأسماليون جهودهم نحو إغراء المستهلك، وعملوا على جرّه نحو السوق جرا، وطالبوه أن يبقى واقفا على رؤوس أصابع أقدامه متحفزا للشراء. وقد قدموا له الكثير من التسهيلات المالية لكي يبقى في السوق حاملا بيديه الجديد من المنتجات. ولهذا نجد شاشات التلفزة مزدحمة بالإعلانات التجارية، وكذلك الشبكة الإليكترونية والصحف المقروءة ووسائل الإعلام المسموعة، الخ. حيثما ذهبت في أي مكان في العالم، أنت تتعرض لقصف إعلاني متواصل ومحموم، وجميع المنتجين يطلبون منك شراء منتوجاتهم لأنها الأفضل والأنسب والأكثر ديمومة.

أصابت الرأسمالية الإنسان بهوس أو جنون الشراء، أو الاستهلاك، وصنعت عادة اللهاث وراء التقليعات وآخر طراز وآخر صرعة، وآخر إضافة. أنظر مثلا جنون الشباب والشابات فيما يتعلق بأجهزة الخلوي، وتتبعهم لآخر صيحات الخدمات التي يقدمها الجهاز والسعي إلى الشراء. من الناحية العملية، لا تقدم آخر الصيحات فائدة حقيقية متناسبة مع الثمن الذي يدفعه الشباب، لكنها صيحات جذابة يصعب على شاب أو شابة في مقتبل العمر مقاومتها. وحولت الشركات هذه الصيحات إلى مجال للمنافسة الانتقائية بين الشباب والشابات بحيث ينظر إلى صاحب الجهاز غير المتطور على أنه/ا متخلف/ة. ولك أن تحسب كم من الأموال تكلف هذه المسألة الآباء والأمهات، مضيفا إليها تكاليف المكالمات والرسائل المختلفة.

أو أنظر مثلا إلى سباق النساء على آخر صرعات الملابس المتنوعة من قمصان وفساتين وتنانير وسراويل، الخ. نسبة كبيرة من نساء الأرض يملكن معلومات جيدة عن آخر هذه الصيحات، وأغلبهن يعملن على شرائها، ويعتبرن ذلك نوعا من التقدم الإنساني والحضاري، ولو بحثت في البيوت لوجدتها مليئة بالملابس النسوية، وربما تستطيع بعض النساء أن تقيم محلا تجاريا بالملابس التي تملكها. ملابس جديدة وثمينة يتم إلقاؤها بالنفايات ليس لشيء إلا لأن صانع الصيحات في روما قد قرر أنها ملابس لا تصلح للاستعمال الإنساني الحضاري، وهي ملابس أصبحت قديمة لا ترتديها إلا النساء المتخلفات.

أو ربما هناك من يرغب في البحث عن اهتمامات الأثرياء بآخر صرعات السيارات المكشوفة والمغطاة والرياضية والسريعة، الخ، عملية استبدال السيارات تحصل بطريقة جنونية، وهي تكلف مبالغ باهظة، وتزهق نفوسا كثيرة بخاصة من الشباب المهووس بالتبجح والتلاعب.

كل هذا يكلف الكثير من المال الذي يذهب على حساب نشاطات حيوية وجوهرية مثل التعليم والصحة ودعم الفقراء والمحتاجين. أناس باتوا يفضلون التركيز على الاستهلاك على تسديد أقساط الجامعة لأبنائهم، أو يفضلون بقاء ابنتهم بدون زواج لأن العريس لا يملك ما يكفي من المال لتغطية تكاليف حفلة العرس، أو أكل القليل من الطعام الذي قد لا يكون مغذيا من أجل توفير المال لشراء الحلية ومواد الزينة. العالم ينفق المليارات على مواد التجميل، لكنه ينفق الملايين على مكافحة بعض الأمراض الخطيرة، وكمية الطعام الفاخر التي تلقى في النفايات تطعم مئات ملايين الجياع.

باختصار، الرأسمالية صنعت ثقافة استهلاكية مرعبة، وما زالت تمعن في ذلك، ولا يبدو أنها تملك كوابح للتهدئة، أو نية لإعادة تقييم الأمور. إنها تصنع الإغراءات وتفتح شهوات الناس للبحث عن المزيد من الاستهلاك، وواضح أن الناس في كل بقاع الأرض يتقبلون هذه الثقافة وينصاعون إراديا ولا إراديا لرغبات المنتجين. وكلما غرق الناس في الاستهلاك، خفت قدراتهم النقدية والتحليلية وتحولوا إلى مجرد أدوات يتحكم الغير بتحديد تصرفاتها وسلوكها. وهذه هي النتيجة التي يريدها الرأسمالي وهي عالم من الشهوانيين الذين يختلفون عن الحيوانات فقط في فنون الاستهلاك وليس في الاهتمامات.

التحليل والتفكير الحر عبارة عن عدوين كبيرين للسلطات المتنفذة سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. أصحاب النفوذ الاقتصادي يرون في الثقافة العامة والتفكير الحر ورقي التحليل وسمو المستوى الأخلاقي خطرا عليهم. أصحاب العقل النقدي يعملون على توجيه الناس وتوعيتهم بالمخاطر التي تحيق بهم مما يثير الكثير من الانتقادات لسلوك الرأسماليين واهتماماتهم. المعاداة المباشرة لأصحاب الكلمة الحرة والقدرات النقدية والتحليلية لا تفيد، ويبقى من الأسلم تثقيف الناس تدريجيا لكي يتقبلوا واقعا جديدا يصبح جزءا من تركيبهم النفسي. وأكبر مثال على ذلك هو تحويل الدعارة  إلى تجارة رائجة مسموح بها، ومقبولة من قبل جمهور الناس في العالم. كانت نيو يورك ترفض الدعارة، وكذلك باريس ولندن، لكن الآن بيوت الدعارة منتشرة في أغلب بقاع الأرض، وهي تجارة تأتي بمليارات الدولارات من الأرباح. كانت المجتمعات ترفض مثل هذه الأعمال، لكنها أصبحت الآن نوعا من أنواع الحرية على الرغم من الأضرار والأمراض الاجتماعية والصحية التي تنجم عنها. وقد تطورت الأمور مع الزمن حتى أصبحت الدعارة على شاشات الفضائيات وتدخل أغلب البيوت في العالم، وعلى الأقراص المدمجة، ومتوفرة في الأسواق. إنها حرية ربحية، لكن أين حرية المجتمع في أن يكون سليما ومعافى؟

 ثغرة الخدمات

يعتبر التركيز على تقديم خدمات جديدة وتحسين خدمات قائمة من أبرز اهتمامات الرأسماليين الآن وذلك بسبب ما تدره من أرباح كبيرة. هناك خدمات الهاتف والمياه والكهرباء، وهي خدمات نستطيع القول إنها تقليدية وموجودة في أغلب بقاع الأرض، وهناك خدمات تنشأ مع تعقيد الحياة وارتفاع مستوى النشاطات الإنسانية المختلفة. فمثلا هناك الآن خدمات الشبكة الإليكترونية، وخدمات النفايات وتنظيف البيوت، وخدمات التسوق والمصارف المالية، الخ.

تغرق المجتمعات الآن بخاصة في الدول المتطورة اقتصاديا في الكثير من الخدمات التي تتطلب الكثير من النفقات المالية، ويبدو أن المجتمعات الأقل تطورا تعمل على المشابهة وتحاول تقديم مختلف الخدمات التي تطرأ. وواضح أن الخدمات ذات جاذبية للغالبية الساحقة من الناس بسبب ما تقدمه من راحة جسمانية، وربما ذهنية للإنسان، ومن الصعب جدا مقاومة إغرائها. والمشكلة التي تجسدت هنا هي أن الطلب على الخدمات لم يعد متناسبا مع الدخل أو مع الإنتاج مما يؤدي إلى هموم مالية كبيرة. العديد من الناس على اتساع العالم باتوا يستهلكون بقيمة أكبر من دخولهم المالية، وعليهم أن يتحملوا الديون وملاحقة المقرضين.

من المعروف أن الإنسان يحاول التمدد في رخاء الحياة تبعا لدخله المالي أو المردود الاقتصادي لنشاطاته. كلما ارتفع الدخل، تحسنت ظروف المعيشة ذلك لأن المرء يستطيع شراء ملابس أفضل، أو الذهاب إلى مطعم لتناول وجبة، أو دفع أقساط منزل، الخ. وهذه هي المعادلة التي يحرص عليها الإنسان العادي الذي لا يريد أن يمدد جسمه بأكثر من طول فراشه، وهي ذاتها المعادلة التي يجب أن تتمسك بها الدول والحكومات. لكن ما يحصل الآن هو أن إغراء الخدمات يجتاح نفوس العديد من الناس الذين ينهمكون في استعمالها أو شرائها دون أن تكون لديهم القدرة المالية الكافية لتسديد التكاليف، فيغرقون بالديون والهموم.

تم ترك هذه المسألة للسوق وآليته، وبقيت الحكومة بعيدة عن المشهد، أو مشاركة فيه. نظرا لإقبال الناس على الخدمات، حصل عدم توازن بين الدخل والنفقات، فظهرت مشكلة المديونية التي يكتوي بنارها الجميع: الجشِع والطماع والبهلول والضعيف والدول والشعوب.

تمويل النفقات المتصاعدة

هجمة المنتجين على المستهلكين قوية وشرسة، وهي تتطلب من المستهلك قضاء الكثير من الوقت في الأسواق باحثا عن منتجات جديدة. هذا يتطلب كمية كبيرة من المال قد تكون فوق طاقة المستهلكين.  فما العمل؟ وجد المنتجون ومن معهم من الرأسماليين كالتجار والممولين حلا في تقديم القروض السهلة وتوفير بطاقة الاعتماد والائتمان الماليين. فتحت المصارف أبوابها أمام القروض السهلة التي لا تتطلب ضمانات معقدة، وفتحت مؤسسات التمويل السبل لإصدار بطاقات الائتمان غير باهظة الثمن، وأصبحت عملية شراء بيوت وسيارات ومختلف أشكال المواد الاستهلاكية والخدمات سهلة جدا. كل ما تحتاجه لشراء ثلاجة مثلا أو جهاز تلفاز هو أن تبرز بطاقة للبائع فيدخلها في جهاز بسيط أمامه، وتحمل بضاعتك وتخرج.

أصبح بالإمكان أن يحصل شاب صغير السن على قرض ويشتري سيارة، لكن دون مقدرة على سداد الديون لأنه لا يعمل أو لأن دخله متدن؛ وأصبح بإمكان كل الذين لا يملكون مالا أن يملكوا الكثير من الأشياء التي حرموا منها عبر الزمن. بذلك اختفت الضوابط المالية، واستمر الأثرياء بمراكمة الديون على الفقراء والمعوزين ظنا منهم أنهم يحققون الأرباح الطائلة.

عمقت هذه السياسات المالية الهوة بين الدخل والاستهلاك، وأخذت النفقات الاستهلاكية  تفوق الدخل بصورة متصاعدة مما سبب الكثير من المعاناة النفسية والمادية للناس. فضلا عن عدم التوازن الذي أخذ يلقي بثقله على اقتصادات العالم بخاصة في الدول الثرية.

القمار

هل تريد تحقيق ثراء سريع؟ ممكن أن يتأتى ذلك في ليلة واحدة على طاولة القمار. قد يأتيك الحظ في لاس فيغاس فتخرج من صالة القمار مليونيرا، وعندها تشتري ما تشاء، وتصبح حياتك أكثر رفاهية ومتعة؛ إنما شريطة ألا تعود إلى صالة القمار. لم يعد القمار مقتصرا على صالة القمار، وإنما امتد إلى صالات البورصات العالمية والمحلية التي أصبحت مراكز لنشاط مالي محموم ومضاربات مالية وتحت لافتات مقبولة شعبيا واجتماعيا.

في الأصل، الأسواق المالية مصممة لتداول الأسهم بناء على أسس اقتصادية بحتة مما يشجع عملية الاستثمار. من المفروض أنها أسواق يطرح الناس فيها والشركات أسهمهم للبيع، ويُقبل المشترون لتفحص الأثمان، ولتقييم الوضع الاقتصادي للشركات المعنية. المفترض أن أسهم الشركة تكسب ثمنا أعلى إذا أثبتت الشركة نجاحها الاقتصادي، وإذا ثبت أن عملها يبشر بمستقبل جيد وبمزيد من الأرباح الحقيقية المتواكبة مع عملية إنتاجية حقيقية.

هذا الأصل لم يعد موجودا إلى حد كبير، وأصبحت تتعرض الأسواق للتلاعب من قبل الكثير من الجهات منها الشركة نفسها وكبار المساهمين فيها. تحولت الأسواق المالية إلى مراكز لنهب الفقراء وأصحاب القوة المالية المتوسطة، وتربع على عروشها أصحاب رؤوس الأموال القوية، والأذكياء الذين يملكون القدرة على رفع أسعار الأسهم وخفضها من خلال ألاعيبهم في البيع والشراء.

من السهل جدا صناعة الأوهام لدى الناس حول أسهم شركة معينة وذلك بشراء أعداد كبيرة منها وبطريقة ترفع سعر السهم وهميا، فيقبل الناس على الشراء ظنا منهم أن أرباح الشركة هائلة وأنها قوية اقتصاديا وتبشرهم بربح وفير. يضع العديد من الناس أموالهم في مثل هذه الشركة، وبعد حين عليهم أن يتلقوا مفاجأة هبوط الأسهم، ويتم نقل بعضهم على عجل إلى غرف الإنعاش بسبب الخسائر الكبيرة. صحيح أن بعض الناس يحققون أرباحا من خلال هذه الأسواق المالية، ولكنها تبقى الطُعْم الذي يستدرج الغالبية إلى الهاوية. وماذا يضير الرأسمالي إذا قدم مئات ألوف الدولارات كطُعْم مقابل أن يحصد الملايين بعد فترة وجيزة؟

الأسواق المالية العالمية عبارة عن أوكار للخداع والتضليل وتجريد الناس من ثرواتهم، وهي المكان الذي يلتقي فيه الذكاء والجشع والطمع مع الغباء. الذكاء المدمر هو سمة الرأسماليين الكبار، أما الطمع فهو سمة الناس الذين يحلمون دوما بالثراء السريع، والغباء هو سمة من يظن الخير بمن لا يهدف إلا لتحقيق الأرباح.

القانون يحمي الفوضى

القوي هو الذي يضع القانون في الغالب، وواضع القانون يراعي مصالحه على الدوام مهما بلغ من حسن النية والأخلاق الحميدة. الرأسماليون هم الذين يصيغون قوانين الرأسمالية بطريقة تتناسب مع أهدافهم في تحقيق الأرباح. أنظر مثلا كيف تضع الرأسمالية قوانين ضد الكذب، ولا تضع ضد الزنا على الرغم من أن الكذب والزنا ليسا من الأخلاق وكلاهما يساهمان في هدم المجتمع. الكذب عبارة عن آفة كبيرة تعرقل عمل الرأسمالية، أما الزنا فعبارة عن تجارة تدر الأرباح، وهذا ما جعل الكذب قضية عامة، وجعل الزنا من الحريات الشخصية.

قد يمس القانون بعض كبار الرأسماليين أحيانا، لكنه عادة يترك المس بالفقراء والمساكين والأغبياء بدون غطاء. فمثلا لا توجد قوانين صارمة لضبط خداع المستهلكين من خلال أساليب التسويق، ولا يوجد ضبط علمي لمواصفات البضائع التي يتم ترويجها، ولا يوجد حرص قانوني على كيفية تقديم القروض وبطاقات الائتمان. ولهذا نرى الفوضى في الساحتين الاقتصادية والمالية على المستويات الشعبية، بينما نرى نعومة في الانسياب القانوني حول انتقال رؤوس الأموال وحركتها على الساحة العالمية.

أخطر ما في الأمر القانوني أن المعاملات المالية والاقتصادية تتم على الصعيد العالمي في الغالب بدون تنظيم قانوني، وبدون مرجعيات قضائية، وهذا معناه بالضبط تمكين القوى الاقتصادية والمالية الكبرى على حساب القوى الصغيرة، أو تمكين الدول المتطورة صناعيا على حساب الدول النامية، وتمكين الشركات الكبرى العالمية على حساب الشركات الإقليمية والمحلية. تضغط أمريكا ومعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من أجل الانفتاح الاقتصادي والخصخصة وتحرير التجارة وفتح الأسواق دون أن تكون هناك ضوابط قانونية، أو قوانين تصون مصالح الضعفاء والدول الفقيرة، وتقيم نوعا من التوازن بين التبادل التجاري ذي الطبيعة الاستثمارية وذلك ذي الطبيعة الاستهلاكية. وقد ربطت أمريكا مساعداتها المتنوعة للعديد من الدول النامية بشروطها المالية والاقتصادية، ذلك من أجل أن تستأثر بالأسواق وتحول أكبر عدد من الدول إلى مجرد أفلاك لا تستطيع الدوران بدون المركز.

وإذا كان لأحد أن يعتبر الاتفاقيات الدولية كمرجعية قانونية، فإنه من الضروري أن يراجعها ليجد أن مختلف بنودها تصب في النهاية لصالح الأقوياء. فمثلا ترفض الترتيبات العالمية الآن سياسة الحماية الاقتصادية، وتطلب من جميع الدول فتح أسواقها. هذا يبدو عدلا لأنه يساوي بين كل الدول. هذه المساواة بحد ذاتها هي الظلم، لأن الضعيف لا يستطيع منافسة القوي، وبالتالي لا بد أن يتخلى عن الإنتاج غير المجدي (أي الإنتاج الذي يحقق خسائرا)، ويتحول إلى أجير ومستهلك. أي أن المعاهدات الدولية والاتفاقيات تخدم الفوضى بدل أن تخدم النظام، والتوزيع العادل للثروة، أو التوزيع العادل للنشاط الاقتصادي الإنتاجي.

تخريب كوكب الأرض

 الرأسمالية الليبرالية الحديثة هي العدو الأكبر لكوكب الأرض بسبب صناعاتها الضخمة الملوثة، وجشعها في جني الأرباح واستهلاكها المتنوع والمتزايد مع الزمن. الرأسمالية الليبرالية الحديثة هي أكبر ملوث لبيئة الكرة الأرضية، فهي التي تلوث الأجواء وتسبب الدمار الأكبر لطبقة الأوزون. إنها تساهم مساهمة كبيرة في رفع درجة حرارة الأرض ما يؤدي إلى ذوبان الثلوج والجليد في القطبين الشمالي والجنوبي. وهي تساهم في ارتفاع منسوب البحار ما يهدد مدنا ساحلية عديدة على اتساع الشواطئ العالمية. وهي مسؤولة بدرجة كبيرة عن تلويث البحار، وتهديد الثروة السمكية العالمية بالمواد البلاستيكية التي يتم إغراقها في قيعان البحار. وهي التي تلوث مياه الأنهار والينابيع والبحيرات، وتعتدي على الثروة الشجرية فتقتلع الأشجار وتقلل من مساحات الغابات. الرأسمالية هذه تستنفذ المواد الخام في العالم، وتلجأ في النهاية إلى التصنيع الكيميائي الذي يبعث في الطبيعة المزيد من التلوث.

والرأسمالية وبسبب تركيزها على الاستهلاك وضخ المزيد من البضائع والسلع في الأسواق، وتقليلها من شأن المرأة والإنسان عموما بسبب إباحيتها واستعمال الإنسان كأداة تجارية، وبسبب تشجيعها لاقتناء الحيوانات داخل البيوت، واستهتارها بالصحة العامة للناس ولدت أمراضا غير تقليدية مثل الإيدز وفايراسات كوفيد، وغيرها. لقد ألحقت أضرارا صحية جمة للإنسان، وهي تسبب البدانة والسمنة بسبب مخترعاتها الغذائية التي لا تتوقف عن التزايد والتنوع.

وفضلا عن كل ما سببته من أخطار تتهدد كوكب الأرض، فهي تتسبب بإساءة العلاقات العامة بين الناس بسبب سعيها المستمر لتحقيق الأرباح على حساب المنظومة الأخلاقية والعلاقات الإنسانية .

وإذا تتبعنا سلوك الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى نجدها قليلة الاكتراث بالبيئة والصحة العامة. وأكبر دليل على ذلك سلوك الولايات المتحدة التي ترى في مراعاة مناخ الأرض والبيئة تكلفة عالية تؤثر على مستوى الأرباح، وقررت الخروج من الاتفاقية . هذه الدول هي الأكثر إساءة للكوكب، لكنها الأقل تحملا للمسؤولية.

وإذا كان للعالم أن يصحح الأوضاع البيئية ويحرص على سلامة الكوكب فإنه يتوجب عليه وضع قواعد جديدة للتعامل مع الطبيعة، وتطوير اتفاقيات تحت إشراف الأمم المتحدة من شأنها التخفيف من الأضرار البيئية. ومن المهم أيضا الحرص على حسن توزيع الثروة بحيث يكون القضاء على الفقر هدفا أسمى، والتقليل من الاستهلاك الذي يتغذى على الثروات في حين يقضي بعض الناس جوعا. الاستهلاك العالمي يتطور ويتنوع ويرتفع كلفة وكله يؤثر على الصحة العامة ويركز على المعدة التي هي بيت الداء.

الخلاصة

 الحصاد دائما من جنس البذار، والجشع يقتل الناس أولا، وقد يقتل صاحبه ثانيا. الأزمة المالية العالمية هي نتاج تخطيط الرأسماليين القائم على هدف الأرباح والمتغاضي عن قيم إنسانية أخرى يؤدي غيابها إلى خلل في التوازن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. لقد حصل خلل كبير على الساحة الدولية من الناحية الدولية مما أدى إلى هذه الحالة الاقتصادية الصعبة والتي تشهد تراجعا في النمو وارتفاعا في نسب البطالة في أغلب الدول. هذه حالة تستدعي إعادة النظر في العديد من الأسس والمرتكزات الأخلاقية للعمل المالي والنشاط الاقتصادي، لكنني لا أرى أن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة مؤهل للقيام بهذه المهمة أو راغب في القيام بها.

والمتوقع أن مزيدا من الدول ستصبح مدينة للمؤسسات المالية الدولية وللدول الثرية وللمؤسسات المحلية. وتلك المدينة الآن سيرتفع مستوى مديونيتها. دول كثيرة لم تعد قادرة على تطوير إنتاجها بسبب منافستها الضعيفة وعدم قدرتها على انتهاج سياسة اقتصادية حمائية. حتى أن بعض الدول غير قادرة على سداد فوائد الديون المترتبة عليها.العصا الأمريكية تراقب كل من يخل بتعليمات منظمة التجارة العالمية ويرفض الانسياق وراء التنافس التجاري غير المتكافئ. والهدف في النهاية هو تركيز رأس المال بيد الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة ومجمل النشاطات الاقتصادية التي تقوم بها الولايات المتحدة لا تختلف جذريا عن النشاطات الاقتصادية والمالية التي يقوم بها الثري الكبير داخل دولته من أجل تركيز رأس المال، إنما أدوات ووسائل تركيز رأس المال على المستوى العالمي تختلف عن أدوات ووسائل الرأسمالي التقليدي داخل دوله أو مجتمعه. ومثلما يعمل الرأسمالي التقليدي على تدمير القاعد الأخلاقية لمجتمعه من أجل إحداث تمزيق اجتماعي متناسب مع طمعه في جني الأموال، يعمل نظام الرأسمالية الليبرالية الحديثة على تدمير المنظومات القيمية الأخلاقية للمجتمعات. الرأسمالية الليبرالية الحديثة تسير بالإنسان نحو الظلامية التنويرية التي تتغطى بالمخترعات الحداثة والتطوير العلمي في تنفيذ سياساتها نحو التمزيق المجتمعي والتدهور الأخلاقي والتيه الفكري وانحطاط الوعي الإنساني.

وماذا عن الدول الأخرى  التي من المفروض أن تكون مستهلكة؟ أي التي من المفروض أن يكون لديها بعض المال لإشباع أطماع أصحاب الرأسمالية الحديثة؟ هذه دول تجني أموالا من ثرواتها التي لا تسيطر عليها تماما. لها نصيب من ثرواتها، وللشركات العالمية العملاقة نصيب كبير يذهب جزء لا بأس به منه إلى الخزانة الأمريكية بصورة ضرائب. هذه الأموال التي تحصل عليها الدول والشعوب من ثرواتها الطبيعية سيعود أغلبها إلى الدول التي تشتري الثروات بطرق مختلفة مثل شراء الأسلحة والمعدات الطبية الحديثة، وأدوات الاتصال، وغير ذلك.

أي أن دول الرأسمالية الليبرالية الحديثة تبقى مشغولة بتطوير صناعاتها في مختلف المجالات لتستنفذ ميزانيات الدول الضعيفة وتستنزف ميزانيات الأفراد. وهنا لا بد من الإشارة إلى اقتصادات الترفيه وإلهاء الناس عن قضاياهم الخاصة ومجمل القضايا العامة، وإشغالهم بالنزاعات والخصومات والحروب. صناعة الترفيه والرفاهية لدى الدول الغربية عمل استثماري ضخم ومربح جدا، ومن خلالها تتحكم إلى حد كبير بسلوك الناس في مختل دول العالم، وتوجه بها نفقاتهم. وهذا يعني أن الأفراد سيتسابقون على لآخر المستجدات في مختلف الصناعات مثل السيارات الفارهة وأجهزة الاتصال والعطور والفنادق والمطاعم، الخ.  وسيتهافتون أيضا على المصارف للحصول على قروض ينفقونها استهلاكيا وليس إنتاجيا. وبذلك ترتفع قيمة الفواتير التي على الأفراد والدول تسديدها. وفي النهاية تصاب ميزانيات الأفراد والدول بالعجز، وينتهي الجميع إلى المزيد من المديونية.

هذا ناهيك أن تكلفة الإنتاج الرأسمالي تنخفض من حيث أن الشركات العالمية الكبرى تستغل الأيدي العاملة في الدول الفقيرة لتكون منافسة بقوة لإنتاج الغير. وبسبب سوء الإدارة المالية والإدارية في الدول الفقيرة، وبسبب قلة وعي الناس بآليات عمل الدول الرأسمالية الليبرالية، توظف الأيدي العاملة الرخيصة نفسها في خدمة الرأسمالية الليبرالية الحديثة لتبقى هي تحت وطأة دول الاستكبار العالمي.. أي أن عمال الدول الفقيرة لا يختلفون عن عامل ماركس الذي ينتج أدوات أو سلع قمعه. إنه ينتج عوامل ضعفه من حيث أنه ينتج لرأسمالي ضخم ليزداد قوة وليرتفع مستوى هيمنته على الآخرين واستغلاله لهم.

وعليه، لا نأخذ مقولات حقوق الإنسان التي تتحدث بها أمريكا ومجمل الدول الغربية بجد. الرأسمالية غير معنية بحقوق الإنسان، وإنما يتدمير الإنسان. وقضايا حقوق الإنسان مطروحة لأسباب سياسية وليس لأسباب أخلاقية.

الحل

من الملاحظ أن الرأسمالية تتمتع بقدرة على التكيف، وتعمل على إيجاد حلول للمشاكل التي تعترضها. هذا منطقي جدا لأن الرأسماليين حريصون على مصالحهم الخاصة، وهم ليسوا على استعداد لترك الأوضاع الاقتصادية تتدهور إلى درجة الانهيار التام. ولهذا استجابوا لضغوط العمال ولمطالب النقابات العمالية عبر الزمن وبطريقة تدريجية. لم تكن استجابتهم فورية ووفق إرادة العمال، لكنهم اتبعوا آلية الحوار، وعملوا على تقليل ثمن استجابتهم للمطالب العمالية والنقابية بقدر الإمكان. وواضح أنهم استطاعوا تجنب اضطرابات عاصفة في الكثير من الدول، وحالوا دون قيام ثورات تقلب الطاولة على مصالحهم المالية والاقتصادية، واستطاع العمال في أغلب الدول الصناعية تحسين ظروفهم عملهم ومعيشتهم.

لكن قدرة الرأسمالية على التكيف ومرونتها في الاستجابة للضغوط لم تمنع التقلبات الاقتصادية الحادة من الوقوع، ولم تحل دون تعريض العالم وعموم الناس بخاصة من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة من دفع ثمن باهظ نتيجة هذه التقلبات. لقد لحقت بالناس وبالعالم خسائر كبيرة بسبب الكساد الكبير لعام 1929، وكذلك بسبب الأزمة المالية الضخمة لعام 2008. تضرر أصحاب الدخول المحدودة إلى درجة أن أعدادا كبيرة من الأمريكيين اضطروا أن يخرجوا من مساكنهم المرهونة ليعيشوا في خيام تحت ظروف معيشية صعبة للغاية. ومع كل تقلب اقتصادي حاد تطفق الدول الرأسمالية باحثة عن حل ينقذها من الانهيار التام.

على مدى عشرات السنين والبحث عن حل جارٍ في داخل الرأسمالية وليس خارجها. بعد الكساد الكبير، رأى علماء الاقتصاد أن المشكلة الأساسية تكمن في اقتصادات حرية العمل Laissez Faire economy، ولهذا نبهوا إلى ضرورة تدخل الحكومة المحدود لكي يشكل صمام أمان ضد الفوضى الاقتصادية التي تنجم عن حرية السوق. ولهذا اتخذت الحكومات الغربية وعلى رأسها حكومة الولايات المتحدة قرارات سمحت للحكومة بالتدخل في الشؤون الاقتصادية من الناحيتين المالية والنقدية. وقد أصبحت هذه الحكومات في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين أكبر جهة إنفاقية في الدولة، وذلك لكي تخلق فرص عمل لملايين العاطلين.

فسرت الدول الرأسمالية الكبرى الأزمة المالية العالمية لعام 2008 على أنها خلل كبير في السيولة بسبب عجز الجمهور عن الوفاء بالتزاماتهم المالية للمؤسسات المالية، وكانت البداية في قطاع العقارات. تجاوزت التزامات جمهور الناس المالية قدرتهم على الوفاء بسبب عدم التناسب بين الدخل والالتزام والذي نجم عن تهور المؤسسات المالية في منح القروض دون ضمانات كافية لتأمين السداد. فكرت هذه المؤسسات كثيرا بالأرباح التي تجنيها لقاء التوسع في التسهيلات المالية فوجدت نفسها بلا مال. هنا تدخلت الحكومات بخاصة حكومة الولايات المتحدة لتقديم مئات بلايين الدولارات للمؤسسات المالية والاقتصادية لتمنع انهيارها. وهنا تتمثل مهزلة الحل وهي أن الذين سببوا الأزمة هم الذين حصلوا على الأموال لكي يبقوا واقفين على أقدامهم، وإلا حصلت كارثة أعظم. صحيح أن حكومة الولايات المتحدة تكفلت بسداد ديون بعض الناس للمؤسسات العقارية، لكنها لم تضع حلا نهائيا يجنب الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الرأسمالي المخاطر ويحول دون هزات اقتصادية مستقبلية خطيرة.

فشل الحل من الداخل

المشكلة أن البحث عن الحلول ما زال يدور ضمن الرأسمالية ذلك لأن القائمين على شؤون العامة يؤمنون بالرأسمالية كنظام اقتصادي أمثل، ويؤمنون بأن النظم الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية السائدة في الدولة يجب أن تتوافق مع النظام الرأسمالي. أي أنهم يصرون على أهمية انعكاس القيم الرأسمالية على النظم الأخرى لتحقيق الانسجام العام والمحكوم برؤى الرأسماليين. واضح أن السياسيين يتبنون الفكر الرأسمالي، ويتساوقون مع المضامين الرأسمالية أكثر مما يتساوقون مع المضامين الإنسانية.

تعاني الرأسمالية من خلل تركيبي ينبثق إلى أزمات بين الحين والآخر، في حين أن المعالجات التي تتم عبارة عن معالجات عرضية لا تمس تركيب الرأسمالية. ولهذا تبقى المعالجات العرضية ذات تأثير محدود ومؤقت، ويبقى الخلل التركيبي قائما لينفجر بين الحين والآخر. أساس الخلل التركيبي هو مراكمة الأرباح والتي تشكل القاعدة الأساسية لمختلف الترتيبات النظرية والعملية للنشاط الاقتصادي الرأسمالي، أما العرضي فلا يمس فكرة الأرباح، وإنما يتناول فقط كيفية تجاوز الأزمات إجرائيا وليس مبدئيا.

الأساس الربحي يقيم منظومة من القيم الأخلاقية مرتبطة بالهدف، ووفقها يتم ترتيب العلاقات العامة في المجتمع. هذه منظومة لا ترتكز على أبعاد إنسانية توازن بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، وإنما تترك المصلحة العامة كنتاج للمصلحة الخاصة. إنها تقول إن المصلحة العامة تتحقق إذا قام كل فرد بالسعي الحثيث لتحقيق مصلحته الخاصة لأنه بذلك تقام المصانع والمزارع وتتوفر فرص العمل للجميع مما يدفع بالنشاط الاقتصادي إلى الأمام. هنا يكمن الخلل حيث أن ترتيب العلاقات العامة بما فيها العلاقات الاقتصادية يقوم على مبدأ المصلحة الخاصة أولا، ومن ثم تكون المصلحة العامة على هامش هذه الترتيبات. هناك فارق كبير بين العلاقات التي تنبثق عن مبدأ الأرباح أو المصلحة الخاصة، وبين تلك التي تنبثق عن مبدأ المصلحة العامة، أو مبدأ التوازن بين المصلحتين الخاصة والعامة.

وعليه فإن الإجراءات التي يتم اتخاذها من أجل مواجهة الأزمات التي تولدها الرأسمالية تبقى ذات مفعول عرضي لا يمس تركيبة النظام الاقتصادي وما ينبثق عنه من منظومة أخلاقية، ويبقى المفعول مؤقتا.

الملكية الخاصة والأرباح

الملكية الخاصة بحد ذاتها ليست المشكلة الحقيقية، وإنما هوس الأرباح هو المشكلة. الملكية الخاصة عبارة عن آلية بينما الأرباح عبارة عن هدف، وهي الهدف الوحيد للرأسمالي كما أسلفنا. من الناحية المبدئية، الملكية الخاصة مشروعة، وكذلك الأرباح لأن الأولى تشكل نوعا من الإشباع النفسي، والثانية عبارة عن حافز قوي لاستخدام آلية الملكية الخاصة. فإذا تركنا الناس يبحثون عن الملكية الخاصة بدون ضوابط، ويسعون وراء مراكمة الأرباح بدون كوابح فإن النتيجة هي الجشع الذي لا حدود له، والذي يمكن أن يدمر الاقتصاد والبنى الاجتماعية والثقافية والفكرية.

هنا يجب أن نميز بين الأرباح بصورة عامة، وبين الأرباح التي تتحقق عن طريق الإنتاج وتقديم خدمات حقيقية للناس. هناك أرباح تتحقق بسبب عمل مباشر وجهد حقيقي يقوم به الشخص من أجل كسب الرزق، وهي أرباح مشروعة ويجب تشجيعها لأنها أساس البناء الاقتصادي وأساس اعتماد الإنسان على نفسه، وهناك أرباح تقوم فقط على أكتاف الناس دون أن يكون هناك جهد عملي حقيقي منتج، وهي أرباح غير مشروعة. فمثلا يحقق تجار أرباحا في عرض البحر من خلال التبادل التجاري لبضائع لم تصل إلى أي ميناء، وكل تاجر يحقق أرباحا تتراكم في النهاية على رؤوس المستهلكين. قد يشتري تاجر الكيلوغرام من السكر من كوبا بمبلغ عشرين سنتا، لكنه يبيعه في عرض البحر لتاجر آخر فيصبح سعر الكيلو 30 سنتا، ويشتريه ثالث في عرض البحر أيضا فيصبح سعره 40 سنتا. ما أن يصل الكيلو إلى يد المستهلك حتى يكون سعره قد وصل 75 سنتا. من هم هؤلاء الذين استفادوا من الكيلوغرام؟ ربما ليس الفلاح الكوبي الذي يكد ويشقى ليل نهار ليؤمن لقمة خبز لأطفاله، وبالتأكيد ليس المستهلك. المستفيدون في الغالب هم التجار الذين لم يقدموا خدمة حقيقية للناس، ولم يقوموا بأي عملية إنتاجية. هؤلاء يحققون أرباحا عبر الفاكس أو رسائل الخلويات والشبكات الإليكترونية وهم يسترخون في مكاتبهم الفاخرة المكيفة، ويتداولون التحويلات المالية عبر المصارف العالمية دون أن يرى أحدهم دولارا واحدا.

كان من الممكن أن يُشترى الكيلوغرام الواحد من السكر من الفلاح بمبلغ أفضل من 20 سنتا، قل 25 سنتا، فيتحسن وضع الفلاح الكوبي، وكان من الممكن أن يصل الكيلوغرام إلى المستهلك في أذربيجان بسعر 50 سنتا. هناك 25 سنتا تذهب إلى جيوب الجشعين الذين هم في الحقيقة عالة على الإنسانية، ويسببون الكثير من المشاكل الاقتصادية في النهاية مثل التضخم المالي، وزيادة أعداد الفقراء.

الأستاذ الدكتور عبد الستار قاسم