من هنا وهناك

هذه هى غزة – عبداللطيف مهنا

 

هذه هى غزة –  عبداللطيف مهنا

دخلت الحرب العدوانية الإبادية على غزة اسبوعها الرابع. كافة صنوف اسلحة ترسانات الموت الغربية ادلت وتدلي بدلوها في صناعة هذه المحرقة التي يديرها الصهاينة هناك، والتي بات بنك استهدافاتها يتسع لكافة تفاصيل الحياة الغزاوية، بشراً وشجراً وحجراً. لم يعد من داع لملاحقة احصائيات كم سقط ويسقط وسيسقط من شهداء غزة من الاطفال والنساء والشيوخ، وكم من البيوت هدمت على رؤوس عائلات بكاملها، لأن القوائم هنا طويلة ومتوالية الزيادة على مدار اللحظة بحيث بات يصعب اللهاث خلف آخر ارقامها. فعل البرابرة الغزاة كل مابوسعهم. تفننوا على راحتهم في كيفية افراغ تليد احقادهم المعتَّقة، وتحويل هذا المعتقل الكبير العنيد المشاكس إلى كومة من دمار ورماد، وهذه البقعة المقاومة المستفرد بها إلى بحيرة من الدم المراق المستباح. وإذ لا مايدعو للهاث خلف ماتترى على مدار الساعة، بل دقائقها، من قوائم آلاف الضحايا والمستهدف بالتدمير الممنهج، فلا مايدعو إيضاً لمزيد من الشرح أو التوثيق، ذلك لأن المشهد المتوحش باتت فظاعاته تطوف، بالصوت والصورة، اربع جهات الكون دالفةً، عبر وسائل الإعلام، إلى كافة بيوت المعمورة من دون استئذان، ورغم تعاظم مظاهر التعاطف الشعبي غير المسبوقة في العالم مع ضحاياه، إلا أنه ومع الوقت ربما بات هذا المشهد لكثرة من ساكنيه حدثاً معتاداً، وحتى مملاً، واقله مزعجاً، أو غير المرحب بمتابعته، أو من المريح أن تتم الإشاحة عنه.

…لكن للمشهد الغزِّي وجهاً أخرا، شهده ويشهده وسيشهده كل هذا العالم، راضياً كان أم مكرهاً، وبات من الآن، راغباً أم مجبراً، الشاهد عليه، وهو أن هذه البقعة الصغيرة جداً، وحتى المجهرية بالنسبة لترامي هذا الوطن العربي الكبير الغاط في غيبوبته غير القابلة للإعراب، تسطِّر الآن بدمها المراق ارقى اعجازاتها النضالية، ويحفر صمودها الأسطوري في جدران القهر أجل واسمى معاني التضحيات التي عرفتها البشرية، وتذهل مفاجآتها وجديد اشكال ابتكارات مقاومتها البطولية عدوها قبل سواه، مسجلةً في مثل راهن المنعطف المصيري بالنسبة لأمة بكاملها ونيابة عنها صفحة جديدة في معادلات قائم صراعها التناحري المديد مع جبهة اعدائها، والذي لامن عنوان له في قاموس العرب الفلسطينيين، والفلسطينيين العرب، بالأمس واليوم وغداً، إلا: إما فلسطين أو فلسطين… والأهم هو أن هذ المشهد بوجهيه هو كاف لجلاء بعض ماعششت من أوهام تسووية، واسقاط ماتهافتت من رهانات متواطئة على اريحية اعداء الأمة، وفضح ما كان المستور من ضروب الإنحطاط الرسمي العربي… ومع دخان المحارق واعجازات الدم المقاوم في غزة، تكشَّف ما لايمكن تجاهله من الحقائق، ومنها:

أولاً، إن كل ما جلبته الغزوة الإستعمارية الصهيونية معها وحشدته من بشر فى كيانها الغاصب في فلسطين، بطبيعته الإستعمارية الإستيطانية الإحلالية، هم مستعمرون، وكلهم جيش، وبالتالي كلهم صهاينة، ومن شذ عن هذه القاعدة فهو مجهري وهامشي وبلا لون أو وزن أو تأثير، وموضوعياً، ديكوري يوظَّف في محاولات تمويه قبح مجمَّع لقتلة في ثكنة للموت…بدا هذا جلياً لمن كان يجهله في العالم في الأيام الأولى من اسابيع غزة الدموية، وعبَّر عنه واحد منهم هو يؤاف ليمور الكاتب في صحيفة “اسرائيل اليوم”، الذي كتب يقول: “اسرائيل عادت هذا الأسبوع إلى السبعينيات: كل الشعب جيش. أباء يستدعون للاحتياط، اطفال يجهدون لاعداد رزم للجنود في الجبهة، جنرالات عُدَّوا ابطال الساعة، الجمهور معهم بأغلبيته الساحقة، إن هذه ليست معركة على غزة وإنما معركة على اسرائيل، ويتصرف على هذا الأساس: دعم الجيش بلغ السماء”…اجمعت كافة استطلاعات الرأي الأخيرة لديهم بأن اكثر من 80% منهم هم مع استمرارية الحرب على غزة، وإذا مااحتسبنا أن العشرين في المائة المتبقية إنما هي نسبة الفلسطينيين المتبقين في هذا الكيان الغاصب بعد النكبة، فهذا يعني أنهم جميعاً مع هذه المحرقة التي يديرونها في غزة، وإن المراهنة على قليل الأصوات التي بدأت ترتفع منتقدةً اداء ادارة الحرب هى من السخف بمكان، لأن هذه الأصوات ما ارتفعت، ولسوف تزداد وتزداد ارتفاعا”، إلا نتيجة لفشل كافة استهدافاتهم المعلنة، فلا الانفاق دُمِّرت، ولاالصواريخ توقفت، ولا غزة استسلمت، وإنما تتزايد اعداد الثوابيت العائدة بجثث جنودهم.

ثانياً، ورغم الإعلان عن التوصل إلى هدنة ال 72ساعة الإنسانية مؤخراً، والتي بالنظر إلى مصير ماسبقها، وبالنسبة لطرفيها، ليست أكثر من استراحة محارب، فإن كافة المبادرات والوساطات التي طرحت أو ستطرح لإيقاف الحرب تحركها اساساً حاجة هذا العدو لإنجاز مافشلت في انجازة آلة حربه الهائجة، ويظل الهدف الأساس منها هو الإلتفاف على منجزات الدم الفلسطيني الغزَّي، ذلك لأنها لها مايسترو واحد هو الولايات المتحدة وغربها، أو العدو الأول للأمة العربية، ويكفي أن البنتاغون يفتح الآن مستودعات احتياطي اسلحته في الكيان لتعويض المعتدين ما استنفدوه من ذخائر خلال محرقتهم في غزة، وإن ستة آلاف من حملة الجنسيات الأوروبية  يقاتلون الآن في جيشهم على جبهتها…

ثالثاً، إنها ليست سوى واحدة من حروبهم الدورية على غزة، وليست سوى حلقة من حلقات استهداف تصفية القضية الفلسطينية إياها، هذه التي بدأت بضرب مرتكزات نهوض الأمة وروافع قيامتها، بدأ بإخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني، ثم تدمير العراق، وتمزيق ليبيا، وجار الحرب التآمرية المستمرة على سورية، إلى جانب نفث سموم الطائفية البغيضة في جسد هذه الأمة بغية اعادة تجزأة المجزأ منها….لكنما، هذه هى غزة، التي لن تستسلم، والتي تعيد براهن ملحمتها البطولية الجارية مديد هذا الصراع التناحري مع عدوها إلى سابق اساسياته، كل الشعب مع المقاومة، والمقاومون هم كل الشعب، ومعهما كل الأمة، هذه التي لم تعد انظمتها تمثلها…

اترك تعليقاً