الأخبارالأرشيف

لنهاجر إلى ديار الكفر! – صقر أبو فخر

أكثر العبارات استخداماً في الكلام اليومي: «حسبي الله» و «إن شاء الله» و «نِعْمَ بالله» و «توكلت على الله» و «جزاك الله» و «عافاك الله» و «لا حول إلا بالله» و «ما شاء الله»… وغيرها. ويلوح لي أن كلمة «الله» فائضة في كثير من الحالات؛ فيسأل الواحد شخصاً آخر قائلاً: «بالله كم الساعة الآن؟»، فيجيبه: «والله، إنها العاشرة». والجميع يردد «الله الله» للتعبير عن الإعجاب أو النشوة أو الاستحسان. ومن أغرب الأمور أن الحكومة الماليزية أصدرت في شباط 2009 قراراً يحظر على غير المسلمين استخدام كلمة «الله» علماً أن اللغة المالاوية التي يتحدث بها سكان ماليزيا تتضمن كلمة «الله» منذ نحو 400 سنة، أي قبل وجود ماليزيا نفسها كدولة ذات أغلبية اسلامية. ومن مفارقات الأحوال في ديار المسلمين أن الجميع تقريباً يدعو الله دائماً أن يُميته على حُسن الختام، وقلما يدعوه إلى العيش بأفضل حال. والإنسان المسلم، من بين جميع الكائنات، يزدري الوجود، وفي الوقت نفسه يسعى، برغبة جامحة، إلى أن يستمر في الوجود؛ إنه يحتقر الدنيا لكنه يخشى الفناء، ولهذا فإن ديدن المؤمن هو النظر في ما وراء القبر وليس في ما قبله.

خداع الله

إن حب الله لدى المؤمن الحقيقي هو جوهر إيمانه إلى درجة احتقار الذات. وكان المؤمنون يوقعون رسائلهم وكتبهم بعبارة «الحقير». لكن لدى مؤمني هذا الزمان، فإن حب الذات هو جوهر وجودهم إلى درجة احتقار الله أو خداعه على ما يقول شاعر نبيه:

صلى المصلّي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلَّى ولا صامَ

المؤمنون الجدد، لا سيما في المدن التجارية، يجعلون إيمانهم وديعة لدى مشايخهم، أما أخلاقهم فهي دائماً موجودة معهم… أي في جيوبهم. ولأن إيمان هؤلاء من صنع المشايخ (أو الرهبان)، فإن الكوارث ما فتئت تتساقط على المسلمين كتساقط الثمار في الليالي العاصفة. ومع ذلك، فلا شيء يتغير أو يتبدل، وما برحوا منذ 1400 سنة يشتمون أبو جهل وأبو لهب ويلعنون معاوية ومروان ويزيد. وكلما عُرضت على واحد من هؤلاء المشايخ «الفقهاء» (أو «علماء» الدين) مسألة، شَخَرَ ونَخَر وبسمل وحمدل ثم راح يهذي. فالداعية السعودي الشيخ بندر الخبيري ألقى محاضرة في إمارة الشارقة في شباط 2015، قال فيها ما كان يقوله عبد العزيز بن باز، أي أن الأرض ثابتة لا تدور، وأن الشمس هي التي تدور. وأضاف: لو كانت الأرض تدور ففي الإمكان السفر من مطار الشارقة الى الصين بطائرة تبقى ثابتة في سماء الشارقة تنتظر أن تمر الصين من تحتها (الله الله). ونفى وصول الإنسان الى القمر مؤكداً أن مشهد نيل آرمسترونغ وهو يمشي على سطح القمر إنما هو فيلم صُنع في «هوليوود».

هذا ما كان يردده أستاذه الضرير عبد العزيز بن باز منذ أربعين سنة فأكثر. فعنده أن «الأرض ثابتة لا تدور. ومَن يقل غير ذلك فقد كذب على الله. وكل من كذب على الله كافر ضال مضل يُستتاب، فإن تاب تاب، وإلا قُتل كافراً مرتداً» («الأدلة النقلية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب»، مكة، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، 1974). وعلى هذا الغرار قررت «الدولة الاسلامية» في الرقة تحريم التدخين «ومَن يدخن السيجارة أو النارجيلة يُعاقب بقطع الإصبعين اللتين تمسكان بالسيجارة، أي الوسطى والسبابة» (لا حول إلا بالله).

الحيلة والاحتيال

كنتُ اعتقد ان أكثر الأكاذيب شيوعاً هو الكذب في أعمار النساء، لكني قرأت كلاماً ليحيى بن معين يقول: ما رأيتُ الصالحين (ربما العالمين) يكذبون في شيء أكذب منهم في الحديث. ومع ذلك، فإن جميع فتاوى الأوغاد الجدد تستند إلى رواية ضحلة من هنا أو حديث ملفق من هناك. وعلى هذا النحو، فإن الفقهاء اليوم عاجزون عن ابتداع نص فكري واحد له قيمة معاصرة؛ فهم مشغولون دائماً بعرض آرائهم البائسة والتاعسة والمكرورة في هذه المسألة أو تلك، كالحجاب ونكاح الصغيرات وسبي النساء واسترقاق الأطفال وعذاب القبر والثعبان الأقرع وأهل الذمة وقتال المشركين والقصاص وخرق الأجساد بالرصاص وجز الرؤوس والأعناق وبتر الساق. وحتى لو ارتقى هؤلاء «الفقهاء» مراقيَ رفيعة، فإن جميع آرائهم هي آراء ظنية لا قطعية، ولا يترتب على مَن يخالفها أي أمر.

في إحدى مراحل التاريخ الإسلامي، ظهرت كتب كثيرة لتيسير الحياة على المسلمين مثل «المخارج من الحيل» لمحمد بن الحسن الشيباني، وآخر بالعنوان نفسه لمحمد بن أحمد بن أبي السهل السرخسي، والغاية هي ابتداع مخرج من مسألة ما من دون المروق من الدين. وعلى سبيل المثال، فإن النبي كان ينهى المؤمنين عن أكل الثوم قبيل الذهاب إلى المساجد لأن رائحة أنفاسهم تكون كريهة. فجاء بعض الفقهاء ليقول: إذا كنتَ لا تريد أن تذهب إلى المسجد فكُل ثوماً. وأكثر ما كانت المخارج وحيلها في العبادات والأموال. وفي ما بعد، شُغل هؤلاء الفقهاء بالنبش في المعاجم والعثور على كلمات لها معانٍ ميتة، ثم نظم أشعاراً صادمة ذات إشارات متوارية مثل قولهم «اعتنق الصبي ولا تصلِّ على النبي». والصبي هنا هو السيف، والنبي هو الطريق، أي اعتنق السيف ولا تصلِّ على الطريق.

أَليس هو الانحطاط بعينه؟

الكراسي حرام

من مظاهر الانحطاط في العالم العربي التي تستند في سطوتها إلى فتاوى فقهاء التخلف أن مصرياً احتفل في السعودية بحمل زوجته بعد انتظار دام ست سنوات فاعتُقل («الوطن» السعودية، 7/3/2010)، وأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة السعودية استنفرت في شباط 2010 وسيَّرت دوريات دينية وأمنية لزيارة محال بيع الهدايا والورود في عيد الحب، ولمناصحة أصحابها في حضور رجال الأمن، أي أن مَن لا ينتصح يقبض عليه (داود الشريان، «الحب تهمة في السعودية»، الحياة، 14/2/2010). وتعرض الشاعر السعودي رشدي الدوسري في 4/11/ 2008 للضرب والإهانة بعد نشره قصيدة بعنوان «شعوذة شعرية»، وقد شتمه رجال «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بكلمات من عيار: يا فاسق، يا زنديق، يا أبو العاهرات (جريدة «السياسة»، الكويت، 9/11/2008)، وهذا قذف صريح، لكن لا حد عليه. وفي إيران أُحرقت عين رجل بالحمض تنفيذاً لحكم قضائي على قاعدة السن بالسن والعين بالعين لأنه تسبب بفقدان رجل آخر بصره (اللواء، 9/3/2015). وفي سياق موازٍ أصدر مقتدى الصدر قراراً منع بموجبه استخدام مكيفات الهواء والكراسي والطاولات والأرائك في داخل مكاتب جماعته المنتشرة في بلد تصل حرارة بعض مناطقه الى خمسين درجة في الصيف (جريدة «الراي»، الكويت، 5/8/2011). وتجرأ الشيخ الأزهري مصطفى راشد على تحريم حجاب النساء وإنكار حد الردة، ورأى أن الخمر ليست محرمة في الاسلام لكنها مكروهة، واستند في ذلك الى آيات وآراء وتفاسير، فقامت عليه القيامة ولم تقعد (اللواء، 11/10/2011). وهذه عينات من المجادلات الفقهية الاسلامية الهاذية، الأمر الذي يرغمنا على القول إن أحوال المسلمين في «ديار الكفر» أحسن بما لا يقاس على الاطلاق من أحوالهم في «ديار الإسلام».
تحيا الهجرة إذاً، لكن ليس إلى الحبشة هذه المرة، بل إلى ديار «الكفار».

اترك تعليقاً