الأرشيفالجاليات والشتات

عن الأمن السياسي والإجتماعي للفلسطينيين في لبنان – فتحي كليب

قال احدهم ذات يوم “ان الامن هو التنمية، والدول التي لا تنمو ولا تستثمر في التنمية لا يمكن ان تعرف استقرارا”.. خلفية هذه الكلمات البسيطة نصا والمهمة مضمونا ومعنى، هي في تأكيد حقيقة بأن الامن هو مفهوم شامل لا يقتصر على الامن والعسكري والسياسي فقط، لذلك نجد ان اكثر الدول استقرارا سياسيا وامنيا هي تلك التي توفر لمواطنيها التنمية بمعناها الشامل، والتي تتعاطى مع الامن السياسي كحاجة للمجتمع والانسان..

ويبدو واضحا ان الامن والاقتصاد قضيتان متلازمتان لا يمكن فصل واحدة عن الاخرى، بل قضيتان تكملان بعضهما بعضا، لذلك قيل على لسان الكثيرين بأن الاقتصاد صديق الاستقرار وعدو الفوضى، وكلما تعزز الامن والاستقرار في المجتمع كلما تقدمت فرص الاستثمار واتسعت الدائرة الاقتصادية وازدادت الثقة الدولية بالدولة المعنية، واخذت التنمية مسارها الصحيح لتضع الدولة والمجتمع على سكة التطور والتقدم. والعكس صحيح، إذ كلما ازدادت الصراعات السياسية والعسكرية واتسعت كلما اهتزت الثقة العالمية وهربت الرساميل المحلية وشلت الحياة الاقتصادية ودبت الفوضى وانعدم الشعور بالامن، ما يجعل الامن الاقتصادي عرضة للانهيار.

والأمن الاقتصادي وفقا للجنة الدولية للصليب الاحمر هو: “الحالة التي تمكن الأفراد أو الأسر أو المجتمعات المحلية من تلبية احتياجاتهم الأساسية وتغطية المصاريف الإلزامية بشكل مستدام يحترم كرامتهم. وتشمل الاحتياجات الأساسية الطعام والماء والمأوى واللباس وأدوات النظافة الشخصية بالإضافة إلى القدرة على تغطية مصاريف الرعاية الصحية والتعليم”. وبهذا المعنى، فان الامن هو منظومة متكاملة، سياسية واقتصادية واجتماعية وامنية وثقافية وتوجيهية، ووظيفة الدولة، بمؤسساتها واجهزتها المختلفة، هو العمل على توفير هذه الاحتياجات للمجتمع. وان سقط احد هذه اعمدة هذه المنظومة اهتزت المنظومة بكامل عناصرها واصبحت عرضة للانهيار. وعلى سبيل المثال، فان سقط العامل السياسي والامني، تصبح الدول عبارة عن جمعيات خيرية تشرف على تقديم الخدمات لمواطنيها فقط، رغم ان لها الحق المطلق في استخدام القوة لفرض تطبيق القانون، وان هي تنازلت عن مهمتها ومسؤوليتها الاقتصادية والاجتماعية، اصبحت دولة بوليسية تحكم شعبها بقوة الامن العسكري..

في الحالة الفلسطينية وجد مثل هذا الترابط، ببن الامن والاقتصاد، خلال الايام الاولى لمرحلة ما بعد النكبة، عندما خرج اللاجئون الفلسطينيون من منازلهم في فلسطين بمئآت الآلاف تاركين وراءهم حياتهم وارزاقهم وممتلكاتهم، نتيجة ما تعرضوا له من قتل وارهاب على يد المنظمات الصهيونية. وفي تلك الفترة كانت الاوضاع الاقتصادية الصعبة تشكل عاملا ضاغطا على جميع الاطراف. وسعت دول القرار الدولي الى تعزيز حالة الامن الاجتماعي بين اوساط اللاجئين اقتناعا منها بأن الاستقرار الامني لا يمكن ان يستقيم دون توفير عوامل الامن الاقتصادي والاجتماعي، فدخلت المنظمات الدولية على خط تقديم المساعدات الانسانية وعملت على مد اللاجئين بخدمات التعليم والصحة والاغاثة..

لقد شكل وجود آلاف اللاجئين في الدول العربية المجاورة مصدر قلق للولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص وحلفاءها الغربيين، من ان تفتح الحالة الناشئة الباب امام المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي لنشر أفكاره بين أوساط اللاجئين، وهذا ما كان يشكل ضررا بمصالح الدول الغربية، وان يدفع الواقع الجديد اللاجئين الفلسطينيين لحمل السلاح في اطار رفضهم للواقع المستجد.. فكانت فكرة تقديم إغاثة طارئة اليهم، وتوفير المأوى والغذاء للاجئين الذين اصبحوا دون حماية اجتماعية واقتصادية، وهو ما مهد الطريق لتأسيس وكالة الغوث، التي بات يتوفر لها دعما ماليا كبيرا من قبل الدول الكبرى، ليس من الموقع الإنساني او شعورا بحجم الجريمة التي ارتكبت، بل انطلاقا من قناعة بأن انتشار الفقر والجوع بين أوساط اللاجئين من شأنه ان يقود الى انفجارات اجتماعية سيكون لها تداعيات وارتدادات سياسية وامنية..

يكاد المشهد السياسي والاقتصادي الراهن يتشابه الى درجة التطابق، وهو ما دفع عدد من المسؤولين الدوليين الى دق ناقوس الخطر من تداعيات استمرار الواقع على حالة والاكتفاء بحلول ومعالجات امنية وعسكرية، واهمال الجوانب السياسية والاقتصادية، التي يجب تناولها كسلة متكاملة وعلى أرضية التوصيف الدقيق لطبيعة الصراع. ونقرأ كلاما هاما للمفوض العام السابق لوكالة الغوث بيير كرينبول في تقديمه للاستراتيجية متوسطة الاجل لاعوام 2016-2021 يتقاطع مع ما سبق ذكره، فيقول: “ان الوضع يبدو قاتما الى ابعد الحدود في المنطقة، والضغوط على الفلسطينيين ككل وعلى اللاجئين هائلة، وتزداد التهديدات لمستقبلهم وعدم استدامة وضعهم وضوحا. لذا فهذا هو الوقت الذي تصبح فيه الحاجة الى الامل اقوى من اي وقت مضى، ويصبح فيه العمل السياسي مطلوبا من اجل تغيير الظروف واحداث تغيير اساسي في النسق السائد”.

لذا وفي غياب قدرة المجتمع الدولي على فرض تطبيق قراراته خاصة القرار 194، الخاص بعودة اللاجئين الى ديارهم وممتلكاتهم، يبقى الحل الامثل، من وجهة نظر وكالة الغوث والامم المتحدة، الحفاظ على الوضع الحالي ومواصلة دعم الاونروا التي يشكل وجودها عامل استقرار وصمام امان اجتماعي لجميع الاطراف. وهذا الدعم هو الذي سيضمن لأصحاب الحل السياسي وللدول المانحة مكاسب سياسية تفوق قيمة التضحيات المالية التي تقدمها للاجئين عبر الاونروا. وما يعزز مثل هذا الاستنتاج هو ما حمله  نص القرار 302 الخاص بتأسيس الاونروا حين ربط بين “تلافي احوال المجاعة والبؤس (للاجئين) ودعم الامن والسلام في المنطقة”.

وان كانت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في جميع التجمعات تتشابه لجهة الإحساس الجماعي بانعدام الامن الاقتصادي والاجتماعي، فان اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يقفون امام واقع اكثر مأساوية لجهة طبيعة الازمة السياسية والاقتصادية التي يعيشها لبنان، والتي صنفت من قبل البنك الدولي بأنها واحدة من أسوأ ثلاث أزمات شهدها العالم منذ القرن التاسع عشر، وهي ازمة تترافق مع ازمات مماثلة تعيشها المرجعيات الأخرى (وكالة الغوث او مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والمؤسسات الاجتماعية العاملة في الوسط الفلسطيني). وفي النظرة الى المشهد الحالي، فنحن امام اربع فئات اجتماعية تقيم في لبنان، ولكل منها ظروفها الخاصة ومرجعياتها السياسية والخدماتية:

1) الفئة الاولى هي فئة المواطنين اللبنانيين الذين يتمتعون بالحماية السياسية والاقتصادية لدولتهم بمختلف مؤسساتها، وهم استفادوا سابقا من استراتيجيات الدعم الاقتصادي التي اقرتها الحكومة اللبنانية في اكثر من مرة. وهذه الفئة سوف تستفيد أيضا من بعض البدائل المقترحة عن الدعم الحكومي الذي سيتم رفعه قريبا، وهو ما بات يعرف بالبطاقة التمويلية، التي ستعوض بشكل نسبي تداعيات رفع الدعم عن جميع السلع الغذائية وعن المحروقات والأدوية وغيرها.. ومن المتوقع ان يستفيد منها حوالي 80 بالمائة من الشعب اللبناني.

2) الثانية هي فئة النازحين السوريين الذين تتولى قضاياهم الاقتصادية والاغاثية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للامم المتحدة، وهي حكما تتابع اجراءات الدولة اللبنانية فيما يتعلق برفع الدعم، ومن الطبيعي انها ستواكب هذه العملية باجراءات مباشرة تخفف من انعكاسات الاجراءات المتوقعة.

3) الفئة الثالثة هي فئة الاجانب العاملين في السفارات والبعثات الدبلوماسية والدولية، وهؤلاء على الاغلب لن يتأثروا بالاجراءات الحكومية كثيرا كونهم يتقاضون رواتبهم بالعملات الصعبة، وقد لا يشعرون بثقل الازمة، كما المقيمين العاديين، نظرا لفروقات الصرف مقارنة بالعملة الوطنية التي انهارت بشكل لم يسبق له مثيل.. اضافة الى العمال الاجانب الذين اما سيتقاضون روابتهم بالعملات الصعبة او انهم سيغادرون الى بلدانهم..

4) الفئة الاخيرة هم اللاجئون الفلسطينيون الذين سيكونون اكثر المتأثرين باجراءات رفع الدعم الحكومي، نظرا لعجز المرجعيات الخدماتية المعنية عن تأمين البدائل. وما يجعل من هذه القضية مشكلة فعلية هي ان اللاجئين الفلسطينيين، يعتمدون بشكل كلي على وكالة الغوث، التي لم يلمس انها وضعت على اجندتها كيفية التعاطي مع المرحلة المقبلة وما تحمله من مخاطر وتحديات، خاصة في ظل ازمة مالية تشهدها الوكالة وعجز مالي كبير في موازنتها..

قد يقول احدهم، ويكون محقا في ذلك، ان الازمة في لبنان انعكست سلبا على جميع المقيمين في لبنان، سواء كانوا من المواطنين او غير ذلك، وهو امر صحيح، غير ان الصحيح ايضا ان هناك فئات اجتماعية تتأثر اكثر من غيرها بالتداعيات السلبية للازمة وبشكل مضاعف، خاصة اللاجئين الفلسطينيين الذين يعانون كغيرهم من المقيمين في لبنان اولا، ومن ظلم وتشدد القوانين اللبنانية ثانيا، والاهم من ذلك ان حربا سياسية واقتصادية معلنة تشن ضدهم، تترجمها طريقة التعاطي الدولي، مع وكالة الغوث، ونموذجها ما تقوم به الولايات المتحدة و”اسرائيل “اللتين تحرضان الدول المانحة بشكل يومي من اجل تخفيض مساهماتها المالية، وهو ما ادى الى استجابة بعض الدول، ومنها دول عربية، انسجاما مع نلك السياسات لتصفية القضية الفلسطينية.

لقد بات المجتمع الدولي ينظر بعين القلق الى تداعيات الازمة اللبنانية التي وصلت الى مستويات غير مسبوقة من الخطورة، والتي من شأن استمرارها الاضرار بمصالح الدول الغربية، والاهم من ذلك ان يصبح لبنان ساحة مفتوحة لاطراف دولية تعادي الولايات المتحدة و”اسرائيل”، وهو نفس القلق الذي عبر عنه قبيل تأسيس وكالة الغوث. ولهذه الغاية سارعت فرنسا وغيرها من الدول الى جمع نحو 20 دولة مانحة في تموز 2021 من اجل دعم الجيش والاجهزة الامنية اللبنانية.

التخوفات الدولية تلاقت مع تخوفات قوى محلية عبر عنها رئيس الجمهورية في آذار 2020 حين قال: “ان الدولة ستوفر الحماية للمواطنين والمقيمين”، بدوره عبر رئيس البرلمان اللبناني عن قلقه من تداعيات الازمة اللبنانية على المخيمات الفلسطينية، وبذل جهودا حثيثة اثمرت في منتصف عام 2021 بعقد اجتماع “هيئة العمل الفلسطيني المشترك” التي توافقت على تحييد الساحة اللبنانية وابعادها عن الانقسام الفلسطيني وانعكاساته. كما بذل نواب صيدا (بهية الحريري واسامة سعد) ومدير عام الامن العام اللبناني جهودا كبيرة من اجل تعزيز حالة الامن والاستقرار في المخيمات، خاصة في ظل ادراك القوى اللبنانية لتداعيات الازمة الاقتصادية في لبنان على اللاجئين الفلسطينيين.. غير ان الثغرة في كل تلك الجهود انها تعاطت مع قضية الامن والاستقرار في المخيمات من زاوية واحدة وبتجاهل كامل للقضايا الحياتية والمعيشية لفلسطينيي لبنان..

وهنا لسنا بحاجة للقول ان الحرب الاهلية اللبنانية، وان كانت ذات اسباب متعددة محلية وخارجية، الا ان الجانب الاقتصادي والاجتماعي شكل جزءا رئيسيا من هذه الحرب التي استمرت نحو 15 عاما.. وعلى هذه القاعدة تشكل اجماع لبناني على ان رفع الدعم الحكومي لا يمكن ان يعطي مفاعيله الايجابية دون طرح بدائل اغاثية، والا فان الانفجار الاجتماعي قادم في وجه الجميع.. وغني عن القول ان الاسباب الموجبة للانفجار الاجتماعي في الوسط اللبناني هي حاضرة بقوة اكبر بين اوساط اللاجئين الفلسطينيين، نظرا لخصوصية الحالة الفلسطينية وامكانية دخول اطراف اخرى على خط تغذية اية حالات احتجاجية شرعية وقانونية محتملة.

ان وكالة الغوث هي القطاع العام بالنسبة للاجئين وهي المعنية بطرح البدائل عن الدعم الحكومي، الذي كان يستفيد منه اللاجئون الفلسطينيون في السابق. وهنا تبرز أهمية التنسيق الذي يجب ان يحصل بين المرجعيات الخدماتية الأربعة (وكالة الغوث، الدولة اللبنانية، مؤسسات  منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني..)، وبالتالي فان التحذيرات التي يقدمها الخبراء من انفجار اجتماعي وشعبي لبناني حين تبدأ إجراءات رفع الدعم بدون طرح بدائل، هو امر ينطبق تماما وبشكل مضاعف على اللاجئين الفلسطينيين الذين لا مصدر اغاثي لهم سوى المرجعيات المذكورة التي لم تطرح على جدول اعمالها حتى الآن تداعيات رفع الدعم ونتائجه على المستوين الاقتصادي والأمني..

نختم ونقول انه منذ العام 2005 وحتى اليوم، عبر اللاجئون الفلسطينيون عن حس وطني مسؤول حين التزموا بجميع مكوناتهم سياسة النأي بالنفس ورفضهم الزج بأي منهم في آتون الازمة الداخلية، رغم سعي بعض القوى اللبنانية الى ذلك. لكن هذا لا يعني ان استقرار المخيمات قد يستمر طويلا، خاصة في ظل إصرار المرجعيات المعنية على عدم تحمل مسؤولياتها، وبالتالي فان زيادة الضغوط على اللاجئين، المحلية والخارجية، من شانه ان يسرع بالانفجار الاجتماعي في وجه الجميع، لبنانيين وفلسطينيين.. وعلى جميع الحريصين على استمرار حالة الامن والاستقرار في المخيمات إيجاد الحلول لعشرات المشكلات الاجتماعية، وعلى قاعدة ان الامن شبكة متكاملة من العناوين السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية.. خاصة وان الأطراف الدولية واللبنانية تقر بحاجة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الى ما هو اكثر من الدعم الاقتصادي والاغاثي، بعد ان انهك المجتمع الفلسطيني بأزمات عديدة خلال الخمسة أعوام الماضية، وكل ازمة منها  كانت كفيلة بأن توصلهم الى مستوى الانهيار المجتمعي. لكن ما جعل المخيمات والفلسطينيين يصمدون في وجه كل الحروب التي تعرضوا لها، هو ادراكهم ان المستهدف الأول والأخير هو حقوقهم الوطنية، وان ما يتعرضون له من سياسات هو بسبب تمسكهم بتلك الحقوق.. ولو كان شعب آخر يعيش الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كالتي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان لانفجر منذ زمن على نفسه وعلى الجميع..

3  أيلول 2021

 

فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين