عربي وعالمي

في ضوء القراءة الأولى لقانون مجلس قبائل وعشائر العراق

في ضوء القراءة الأولى لقانون مجلس قبائل وعشائر العراق/ ملاحظات سيكولوجية ـ تاريخية

 

د.عامر صالح

 

في يوم الخميس وبتاريخ 1ـ 12 ـ 2016 تمت القراءة الأولى في قبة البرلمان العراقي لما يسمى بقانون العشائر والقبائل العراقية, وأثارت هذه القراءة وتبريراتها من قبل بعض السياسيين سخطا وغضبا شديدا في الاوساط المثقفة وأصحاب الفكر ورجال السياسة الحريصيين والطموحين لبناء دولة المواطنة, وأعتبرت ان القراءة الاولى للقانون هي بمثابة ردة تاريخية الى الوراء وعودة القبيلة والعشيرة لتكون مصدر لسلطات مختلفة وذات طابع قضائي وتشريعي مشوه وبعيدا كل البعد عن مفاهيم دولة القانون وسيادة القضاء العادل الذي يقوم على أسس معاصرة وتكون الدولة هي الضامن الوحيد للحق العام والحق الفردي, بعيدا عن اللجوء الى العشائر والقبائل وتقاليدها المتخلفة في فرض نمط من الضوابط لا تليق بحياة الانسان المعاصر !!!.

 

ومن الضروري التذكير هنا أن قانون العشائر قد ألغته ثورة 14 تموز في العام 1958 فهل من المعقول أن نعود أليه بعد أكثر من خمسين عاما على ألغائه. وقد سيقت مبررات لا صلة لها بمنطق العقل والتاريخ من أجل تمرير هذا القانون, ففي توضيح لشيروان الوائلي مستشار رئيس الجمهورية المسؤول عن إعداد مشروع هذا القانون بالتعاون مع أمير الكناني المستشار الآخر في رئاسة الجمهورية والقيادي في التيار الصدري ولجنة العشائر في مجلس النوّاب , قال ( العشيرة هي البنية الأساسية للمجتمع العراقي , ومعظم العراقيين ينتمون إلى العشائر ويستنجدون بها عند الحاجة وبالذات في مراحل ضعف الدولة , وعبر تاريخ العراق الحديث كان للعشائر دور مهم في ثورات العراق ) , وفي معرض تبريره لتشريع مثل هذا القانون يقول السيد شيروان الوائلي ( إن نفوذ العشائر الآن هو أقوى من جميع الفترات في تاريخ العراق الحديث , وهنالك تسرّب للسلاح المتوسط والثقيل لدى العشائر , وأن هذه العشائر قد حمت الكثير من المجرمين والفاسدين في المجتمع بفضل حماية العشيرة , والذي نحتاجه هو قانون لتهذيب الأعراف لحماية المجتمع والقانون , ويقول أن هنالك أعراف عشائرية تستحق أن تكون قواعد دستورية منها أن صاحب السودة ( أي الجريمة المخلّة بالشرف ) لا يدفع له فصل) !!!.  

 

ومن هنا أرى ضرورة وضع مفهوم العشيرة والقبيلة في سياق نشأتها التاريخية وفهم دورها في تشكيل “وعي خاص ” أرتدادي لا ينسجم مع فكرة دولة المواطنة. أن وجود العشائر والقبائل ودورها في المجتمع يعكس مرحلة تاريخية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي, وهي لصيقة مرحلة الإقطاع التاريخية وما قبلها و التي مرت وتمر بها المجتمعات الإنسانية المختلفة, بكل ما تحمله الأخيرة من بنية فكرية وأخلاقية وأدائية متخلفة قياسا بلاحقتها والتي نشأت على أنقاضها ألا وهي الرأسمالية.  

 

بعد نشوء وبداية نشوء الدولة الوطنية بدأت عملية تحول الأمن والحفاظ على المصالح الاقتصادية والاجتماعية تنتقل من يد العشيرة باعتبارها الحافظ الفئوي والمناطقي والأسري لمصالح أبنائها, إلى الدولة باعتبارها المؤسسة الحاضنة للجميع والعابرة للعشيرة والقبيلة والطائفة والدين كما يفترض ذلك من سنة التطور التاريخي التي أفرزتها تجارب بناء الدول المدنية المتحضرة, والتي قامت على خلفية تحولات عميقة في البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية والأيديولوجية, مما سهل نشأة الأسواق الوطنية والاقتصاد الوطني القومي ونشأة المدن الحضارية, والانتقال من المجتمعات الرعوية والزراعية والريفية المتخلفة إلى مجتمعات المدن الحضارية !!!.

 

وعلى هذا الأساس وحسب درجة تطور المجتمعات وظروفه الخاصة بدأ الاضمحلال التدريجي لسلطة العشيرة والقبيلة باعتبارها مرحلة متخلفة من مراحل النمو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى خلفية مستويات التطور الاجتماعي والاقتصادي وعدم الاستقرار بقيت العشيرة والقبيلة في علاقة عكسية مع الدولة, فكلما ضعفت الدولة اشتد ساعد العشائرية والقبلية, وبالعكس كلما قويت الدولة واشتد بنائها ضعف الدور ألتأثيري للعشائرية والقبلية. هذه العلاقة بمجملها تدفع العشيرة للتحالف مع الدولة عندما تكون قوية, وتشهر السيف ضد الدولة عندما تكون ضعيفة أو في طور البناء. ومن هنا تنشأ المشكلات بين المركز ” الدولة ” وبين ” الأطراف ” التي هي العشائر والقبائل وحلفائها !!!.

 

أما بالنسبة للبنية الذهنية والعقلية والنفسية للعشيرة والقبيلة فهي أشد تركيزا ووضوحا وسلبية في تخلفها قياسا بالتخلف العام في المجتمع الذي تتواجد فيه, وتمثل خلاصة مركزة في القيم والاتجاهات والأنماط السلوكية السلبية لمرحلة تاريخية سابقة متخلفة, وهي بطبيعتها تقاوم التغير الايجابي والسنة الطبيعية للتطور, ويعتبر الماضي بالنسبة لها بكل ما يحمله من أبعاد الانغلاق على الذات والإبقاء على القديم أحد مصادرها ومرجعيتها الأساسية في التعامل مع مشكلات الحاضر ونهضته, وبالتالي ترى في كل جديد ايجابي مهددا لكيانها وعليها أن تقاومه.  

 

العشائر والقبائل لا تمتلك خطابا سياسيا واضحا ومعلنا للجميع يمكن قراءته والتفاعل مع ثوابته المعلنة, فالسلوك العشائري تجسده بوضوح أخلاقيات ” الثأر والثأر المضاد ” و ” الانتقام والانتقام المضاد ” و ” عدو عدوي صديقي ” والحكم بما تقرره العشيرة وجلسات المضايف من ثأر وفصل في القضايا التي تحدث في نطاق سلوك العشيرة مع العشائر الأخرى أو مع الأشخاص الآخرين ومع الدولة, فالعشيرة لا تعترف بالدولة حتى وان كانت دولة القانون لأنها عدوة الدولة في السر وفي العلن !!!.

 

والعقل العشائري والقبلي هو عقل وثوقي ” أي يثق بما لديه من مواقف ثقة عمياء ويعتبر كل عيوبه مزايا مطلقة “, وهي احد أسباب صراعاته مع التحولات والتغيرات الايجابية التي تجري من حوله, و تزداد وثوقية هذا العقل وانغلاقه وتحجره كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها, مما يجعله لا يعيش واقعه و لا يفكر من خلاله, وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصام هائل في أتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي, لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة و جذرية في تاريخه. فالعقل ألوثوقي والعشائري المتحجر لا يفكر بمنطق تأريخي و لا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف, لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع هو الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته, فالعقل القبلي والعشائري يرى مثلا أن النصر قريبا على الدولة التي يحيا فيها وأن النصر لا محال للعشيرة والقبيلة !!!.

 

اشتدت نماذج السلوك المتطرف للعشائر والقبائل العراقية في زحمة تعقد الوضع السياسي وضعف الدولة وعدم تمكنها من بسط نفوذها الكامل على التراب العراقي بفعل عوامل موضوعية وذاتية, منها بنية النظام السياسي على أسس طائفية ـ سياسية وجغروطائقية وأثنية وتحالفات سيئة مع دول الجوار, إلى جانب الرفض المطلق للعملية السياسية واللجوء إلى خيار حمل السلاح ضدها, مما أدى إلى اندلاع ما يسمى ” بثورة العشائر “. فهل يحملوا ويجسدوا هؤلاء ” الثوار ” معنى الثورة الحقيقية, أم أنهم يشكلون جزء لا يتجزأ من دورة العنف والعنف المضاد؟؟؟, والذي أدى بدوره إلى أخطر ما أدى أليه هو التحالف مع أعداء الوطن والإنسانية لإلحاق الأذى بالوطن والمواطن وبمستقبل العراق بأكمله, ويجسد أخطر ردة فعل لمعادة سلطة المركز !!!.

 

والأخطر من ذلك هو عندما تضعف الدولة في أداء مهماتها الدفاعية والأمنية وتعتمد بدورها على العشائر والقبائل لحفظ الأمن ودرء الأخطار الخارجية, فأن الدولة تقع فريسة الاستحقاق العشائري وسلوكها المتذبذب والاستسلام لشروط العشيرة وليست الدولة, إلى جانب تكريس عسكرة المجتمع وإيجاد أكثر من مركز للقوة والمنافسة خارج الدولة مما يهدد الأمن الاجتماعي من الداخل ويديم نوبات العنف, وخاصة إذا اخذ هذا الاعتماد على العشائر طابعا جغرافيا ـ طائفيا, فأنه يدفع باتجاهات خطرة ويكرس حالة الاحتقان الطائفي ـ السياسي التي يعاني منها البلد !!.

 

والتجارب القريبة جدا اثبت عدم جدوى ذلك, فقد انشأ في عام 2006 قوات الصحوات الخاصة في المناطق الغربية ذات الطابع السني والتي عمل الأمريكان على تشجيعها, ثم أعقبتها في عام 2007 تشكيل مجالس الإسناد والتي قام بتأسيسها رئيس الحكومة السابقة نوري المالكي في مناطق الوسط والجنوب ذات الطابع الشيعي, وقد أسهما كلا التنظيمين بقدر ما في مساعدة القوات الأمنية ومحاربة المجاميع المسلحة وخاصة في سنوات العنف الطائفي, إلا أنه سرعان ما أوقع الدولة في شرك استحقاقات هذه المجالس وشروطها, وفشل الدولة في إيجاد حلول جذرية لامتصاص هذه القوى وإعادة بنائها في إطار أجهزة الدولة, مما ترك هذه المجالس في تجاذبات واحتقانات لا تحمد عقباها مع الدولة !!!.

 

وما الحدث الأخير والأخطر والمتمثل باستباحة ” داعش ” للأراضي العراقية عام 2014 واحتلال ثاني اكبر مدن العراق ” الموصل ” والذي هدد بإسقاط الحكم في بغداد إلا تعبيرا في بعض من وجوهه عن هشاشة بعض الولاءات العشائرية للدولة ” بغض النظر عن من يحكم هذه الدولة ” والتي قدمت تسهيلات لوجستية ” لداعش ” وهي تعبيرا عن ضيق الأفق العشائري لاستقراء الإحداث وانعكاساتها الخطيرة على الوطن وسلامته, فسرعان ما انقلبت داعش عليهم مسببة لأكبر كارثة إنسانية أضرت جميع الإطراف دون استثناء لطائفة أو دين أو قومية أو مذهب أو عشيرة أو قبيلة !!!.  

 

أن دراسة العشائر والقبائل كظاهرة سوسيولوجي ونفسية لا يعني أبدا النيل من عشيرة دون غيرها أو إلحاق الأذى بسمعة عشيرة ما ورفع شأن أخرى,فكلنا ننتمي إلى عشائر كتحصيل حاصل, بل هو دراسة لظاهرة موضوعية تشكل مرحلة سابقة من مراحل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ولها إبعادها السياسية والاجتماعية الخطيرة, وأن أعادة بناء البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية على أسس من التطور والحداثة والتي تستند إلى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد المتطور في كل المجالات كفيل ببناء دولة المواطنة العصرية عابرة لجميع الولاءات الضيقة من عشائرية وطائفية ومذهبية وأثنية, وبالتالي فلا حاجة لقانون مجلس القبائل والعشائر العراقية, ومهما بلغت المبررات لصدور هذا القانون فأنها لا تصمد امام سنة التطور, ولا يمكن للسلوك العشائري والقبلي أن يضبط بقانون !!!.  

 

اترك تعليقاً