الأرشيفثقافة وفن

«واحة المعري» امتداد لمشروع معرفي بدأته منذ التسعينيات – فاطمة عطفة

محبو الشعر العربي على موعد مع واحدة من مبادرات الشاعر والأديب محمد أحمد السويدي، بتأسيس موقع خاص بحكيم المعرة وشعره ونثره وكل ما يحيط به من دراسات وأحداث وأعلام تاريخية. ولمزيد من المعرفة حول هذا الموقع الأدبي والثقافي الكبير، كان لـ«الاتحاد» هذا الحوار معه.
يبدأ الشاعر محمد أحمد السويدي حديثه بقوله: موقعُ وتطبيقُ المعري أو «واحة المعري» هو امتداد للعمل الذي بدأته منذ تسعينيات القرن الماضي، ضمن مشروعنا المعرفي الذي أطلقنا فيه تطبيقات ومواقع القرية الإلكترونية من أبوظبي إلى العالم، مثل: موقع وتطبيق «واحة المتنبي»، و«مكتبة الوراق» التي تضم أمهات الكتب العربية والعالمية، وكذلك «متحف الفنون»، و«المتحف العلمي»، و«مجلس الفلاسفة»، إضافة إلى «جائزة ابن بطوطة» لأدب الرحلة، ومشروع «ارتياد الآفاق» وغيرها.
ويضيف الشاعر محمد أحمد السويدي: أما لماذا المعري؟ فلأنه يمثل موجة مبكرة من «عصر العقلانية» Rationalism أو ما يسمى بعصر التنوير Age of Enlightenment، وهذا العصر أرجعه الأوروبيون إلى ثلاثة هم رينيه ديكارت وباروخ سبينوزا وغوتفريد لايبنتس، أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلاديين، وأعود فأقول إنّ إمامهم في المناداة بتقديم العقل هو الشاعر العربي أبو العلاء المعري.
ويبين السويدي أن لا مجال للمنازعة في أن المعري هو سيد هذا المذهب. وإذا أردنا أن نرجع الفضل لأهله، فإن أول من بذر بذرة الفلسفة في المعري هو خالد الذكر وشاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي.
لهذا وفور أن أنهيت المراحل الرئيسية في مشروعي «واحة المتنبي»، ثنّيت بالمعري الذي هو رائد العقلانية وعرّابها.
المرجع المتفرد
ويواصل الشاعر والأديب محمد أحمد السويدي حديثه قائلاً: المعري شاعرٌ ومُفكِّرٌ ونحويّ وأديبٌ وفيلسوفٌ وفقيهٌ ومؤرخٌ وعالمُ أنسابٍ، ويمكن أن نضيف للقائمة ما شئنا، فلا يمكننا حصره في قالب واحد ولا في علم واحد، وهو المرجع المتفرد في نواحٍ شتى في زمانه، ومورده لا ينضب، وأمواج محيطه لا تهدأ، لذلك فإن طريقتنا في تناول المعري من خلال الموقع والتطبيق تعتمد منهجية شاملة تؤسس منصة متكاملة للباحثين والمهتمين بأبي العلاء تضم قصائده وأشعاره، وكتبه، وزمنه وملابسات عصره، والمساطر الزمنية التي ننفرد بطريقة إعدادها بحيث تضع بين يدي المستخدم كل البيانات والمعلومات المتعلقة به.
ويشير السويدي إلى أن الموقع سيضم حتى أعلام عصر المعري والملوك المعاصرين ومراكز القوى والخصوم والمنافسين، والعلاقات المتقاطعة معه زمنياً أو مكانياً مع التدعيم بالخرائط التفاعلية والصور، والمرئيات والمسموعات الصوتية. وقد تم تكليف فريق عمل مختص يعكف منذ سنتين على شرح قصائد المعري وتقصّي كتبه، وتعقب غير المشهور منها، كما يقدم التطبيق والموقع شرحاً جديداً لكتب المعري: سقط الزند، واللزوميات، إضافة إلى أنه وجّه بالتنقيب عن الأعمال المفقودة أو المنسية لأبي العلاء، وهو يرجو أن تظهر في القريب ذخائر مكتشفة له، وعلى رأي الحسين بن أحمد الجذري الشاعر:
إن كنتَ متخذاً لجرحك مرهماً ** فكتابُ ربِّ العالمين المرهمُ
أو كنتَ مصطحباً حبيباً سالكاً ** سبلَ الهدى فلزومُ ما لا يلزمُ
مجلس أبي العلاء
وحول مكانة المعري بين أعلام الشعر والفكر في العالم، يقول السويدي: ربما يعرف القارئ أن لدينا تطبيقاً أطلقناه قبل أعوام اسمه «مجلس الفلاسفة»، ويضم أهم وأرقى الفلاسفة العرب والأجانب، وقد يفاجأ البعض من قولي إنه يمكننا تسمية تطبيق مجلس الفلاسفة باسم «مجلس أبي العلاء المعري». ولكن ما يشدني في المعري هو عروبته وهو التنوخي الأصل، في زمن سادت فيه أعراق وأجناس أخرى.
عصر التقلبات
* وأقول للشاعر والأديب محمد أحمد السويدي إن من يطالع المعري يكتشف أن عصره كان يتمتع بحرية فكرية، فكيف سيبرز الموقع كل شيء عن هذه القامة الفكرية الكبيرة؟
– يجيب السويدي: دعيني أحمل القارئ معي إلى زمن أبي العلاء المعري، وهناك ستكتشفين أن عصره لم يكن يتمتع بحرية مطلقة، وليس السبب في فكر أبي العلاء هو الحرية في عصره، بل إن المعري هو الذي كان متمرداً على قيود عصره، في زمن كان يخطو نحو مصادرة الفكر ومحاصرة الحريات، حتى وإن حدثت بعض الأمور الإيجابية مثل الانفتاح على العالم أو ما يسمى بالمزاوجة الحضارية، لكن حقيقة الوقت أنه كان عصر التقلبات والقيود، وكان الصراع محتدماً بين العباسيين بدولة عميقة مترصدة تطارد كل مخالف لها، والعُبَيْدِيِّين بدولة ناشئة تسعى لفرض أفكارها، فحرمت الأرض في زمنه من العدل كما حرمت من السلم، وهيمن الخراب، والجهل، والتمزق والانحطاط الأخلاقي الذي تسيَّد المشهد في عصره.
ويتابع السويدي حديثه قائلاً: على بعد خطوات، كانت أوروبا تتحسس مواضع أقدامها، وبدأت ترنو ببصرها عبر الظلام إلى النور في آخر النفق، وفي توقيت حاسم عاصر المعري إرهاصاته، بدأت فيه الحملات الصليبية التي شنها الغرب، بدءاً من الحملة الأولى (1095-1102م). كانت الأحداث جساماً والمعري يراقبها من حوله تعصف بالعراق والشام وحلب، وقد التقط المعري بشعره صورة لحالة الاهتراء في عصره.
كل هذا وأبو العلاء شاهدٌ مكلومٌ، يسجل ما يحدث بمدادٍ من الحزن والشقاء، ولعل كتابه المنسي النادر المعروف باسم «رسالة الصاهل والشاحج» الذي صاغه بأسلوب الرمز الأدبي يكشف لنا حقائق تجحظ لها الأبصار.
تأثيرات الأدب العربي
واستكمالاً لإجابته عن سؤال الحرية، يضيف محمد أحمد السويدي قائلاً: جوابي عن هذا السؤال هو أن دراستي لعصر النهضة في أوروبا، ورحلاتي إلى مركز حضارتها في إيطاليا، قادتني إلى فرضية عززت الأيام صحتها حتى أضحيت أميل إلى القول إنه ليس فقط «الكوميديا الإلهية» لدانتي هي التي تأثرت بالأعمال العربية، بل إنّ كثيراً من بواكير إنتاج النهضة الأوروبية تأثرت بالأدب العربي، وإن سنواتي التي قضيتها في تقصي المشروع النهضوي الأوروبي ساقتني إلى مركزها في فلورنسا والتي خبرتها بحثاً وترحالاً، من الأوراق إلى الخرائط ثم إلى الاستكشاف بنفسي وعبر فرق أرسلتها هنا وهناك، لأجدني واقفاً أمام حقيقة مذهلة، وهي أن مركز الحضارة ليس فلورنسا بالأصالة، بل هو استنساخ جاء عبر بوابة أخرى كانت تصهر كل شيء على نار هادئة وتسكبه في أوروبا، وهذه البوابة كانت صقلية، التي حاول المسلمون دخولها منذ عهد معاوية سنة 60 هجرية، وثبتت أقدامهم فيها زمن الأغالبة 184 هـ – 296 هـ، وكانت كالقدر تُطهى فيه مكونات الثقافة والمعرفة القادمة أساساً من العرب والمسلمين ومركزها هو «باليرمو». وقد وصلتُ إليها وقِستُ شوارعها ونقّبت عن تاريخها الناطق بأنها كانت «مغناطيساً» عملاقاً جذب أقطاب المعرفة والمفكرين العرب إليها، ونزح إليها أعلام كان لهم أكبر الأثر في نقل المعرفة إليها، حتى إن علياً بن حمزة اللغوي البصري، وهو صديق أبي الطيب المتنبي، نزح إليها وأقام فيها حتى توفي سنة 375هـ، و«ابن البر» شارح ديوان المتنبي، و«محمد ابن خراسان النحوي» و«إسماعيل بن خلف الصقلي» عالم النحو، و«عبد الله الصقلي» صاحب رسالة علم النبات، والطبيب «أبوبكر الصقلي»، و«أبو العباس أحمد بن عبدالسلام» شارح رسالة ابن سينا، وغيرهم.
ويضيف السويدي: لقد وقفتُ أمام علَمين أوروبيين حكما صقلية، الأول هو الملك روجر الثاني 1095-1154م الذي كان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية، وكان طبيب بلاطه الخاص عربياً، ناهيك عن الهندسة والقصور وحتى أنظمة الجيش التي كانت كلها استنساخاً عربياً، وقد دعا الإدريسي وهيأ له كل السبل مدة خمس عشرة سنة حتى أنجز للملك خريطة العالم على دائرة فضية مسطحة تفوق خريطة بطليموس الشهيرة في دقتها.
وأما الآخر فهو الإمبراطور فريدريك الثاني 1194- 1250م، الذي اندفع كآلة عملاقة نحو الكتب العربية يترجمها إلى اللاتينية، ومنها: «كتاب البيطرة» و«شرح ابن رشد»، وهو من طلب الإجابة عن المسائل الصقلية التي أجابه عنها ابن سبعين الأندلسي، وهناك تمت عملية محاكاة كل شيء عربي. ونظم الشعر الغنائي المتأثر بالشعر العربي ليصبح البذرة التي نبت منها لاحقاً ما يعرف باسم شعر التروبادور. ولذا، فأنا وبصدرٍ امتلأت رئتاه بهواء صقلية من شمالها إلى جنوبها عبر رحلاتي المتكررة، أميل إلى القول بأنّ الكوميديا الإلهية تأثرت بـ«رسالة الغفران»، وإنْ حاول المؤرخون الغربيون طمس ذلك، كما لم تفلح محاولات طمس الملامح العربية التي ما زالت في مكونات المطبخ الصقلي، وأسماء أطباقه، وفي جغرافية صقلية وأسماء مدنها وشوارعها وسهولها وجبالها.
  • عن الاتحاد الإماراتية