الأرشيفوقفة عز

زيارة ضريح ناجي العلي – الجزء الثاني

لم تكن مهمة العثور على ضريح الفنان الشهيد ناجي العلي سهلة فلولا عامل الصدفة لكنا تعبنا كثيراً قبل الوصول إلى مكان دفنه وضريحه. خاصة أنا وذلك بسبب وضعي الصحي وعدم قدرتي على المشي لمسافات تزيد عن عدة أمتار، فتحمل مشقة المشي الطويل لم تعد من صفاتي الجميلة والمميزة، فقدتها منذ سنوات قليلة. لكن بفضل سرعة بديهة أخي غسان اليوسف، الخبير بالشؤون البريطانية، تيسرت معنا الرحلة الحنظلية وعثرنا على مكان قبر الشهيد الحيّ ناجي العلي بسهولة.
غسان سريع البديهة فقد لاحظ وجود مجموعة من السياح البريطانيين ومعهم مرشد أو دليل سياحي، كانوا يتفقدون المقبرة وكان الدليل يشرح لهم عنها. قال غسان هذه فرصتنا الأولى وربما الأخيرة للعثور على قبر ناجي بسرعة في هذا البحر الممتد والواسع من القبور. فهذه المقبرة حيث يرقد المعلم ناجي منذ عشرات السنين، كما أسلفنا هي أكبر مقبرة في بريطانيا.
توجه غسان نحو المرشد السياحي الانجليزي وسأله عن هدفنا فحدد لنا الجهة التي يتوجب علينا التوجه نحوها للبحث فيها عن ضريح ناجي العلي. كانت الجهة الشمالية للمقبرة حيث توجد مقابر طوائف وديانات عديدة.
بعد أن سرنا لدقائق قليلة في شوارع الجبانة الضخمة إلتقينا بسائق تاكسي مسلم هندي أو باكستاني، سألناه عن مقابر العرب والمسلمين فدلنا كيف نتجه. لحسن الحظ لم نسر سوى مسافة قصيرة بالسيارة حتى ظهر أمامي وعلى يميني ضريح المعلم ناجي كأنه حنظلة من قبره يطل على الآخرين من علٍ. فور مشاهدتي للضريح تذكرت كاريكاتور ناجي العلي الذي صور قبر وكتب على شاهده “أنا افكر إذاً أنا موجود”… وها هو الموجود معنا في كل خطوة، ناجي العلي الحيّ بعكس الذين اغتالوه، بعد 36 سنة على استشهاده لازال موجوداً ويحرس ذاكرتنا ويوجه بوصلتنا ويصوب مسارنا من قبره اللندني.. من قبره بعيداً عن الشجرة بلدته في فلسطين المحتلة وبعيداً عن مقبرة المخيم في عين الحلوة حيث قبر والديه، الذي كان ينتظره بحسب وصيته، لكن أعداء ناجي حالوا ودفنه مع ذويه في جبانة المخيم.
خلال البحث عن ناجي كنا نلحظ على جانبي الطريق داخل الجبانة قبوراً وأضرحة كثيرة ومنوعة تعود لميتيين من طوائف وديانات ومِلل مختلفة منهم عرب ومسلمين. هناك من الأضرحة والقبور ما هو قديم وما هو جديد. في تلك اللحظات حضرتني مقابر الفلسطينيين في العالم الشاسع ومنها قبور الأصدقاء والمعارف في أوروبا كلها وفي أماكن وبلدان أخرى عديدة تصل حتى الأمريكيتين وآسيا وافريقيا واستراليا.
هذا هو العرس الفلسطيني الذي بدأ ولم ينته بعد، بدأ من قبل صدور رواية “البكاء على صدر الحبيب” لصديقنا المشترك الأديب والروائي الفدائي رشاد ابوشاور.. البكاء على صدور حبايبنا لازال مستمراً فيما “العشاق” ماضون في رحلتهم و”الرب لم يسترح في اليوم السابع” و”آه يا بيروت” ويا ناجي العلي ويا علي فودة ويا كل الشهداء… يا كل الذين رفعتم ولازلتم ترفعون شعار ناجي التالي: “كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي .. أنا أعرف خطا أحمر واحدا، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف و استسلام لإسرائيل”
ويا كل الذين ما زلتم تحفظون شعاره الآخر:”إلي بدو يكتب عن فلسطين بدو يعرف حاله ميت”… هذه شعارات ثوابت لكل الذين حفظوا عن ظهر قلب “رجال تحت الشمس” وخيمة أم سعد” و”عالم ليس لنا” و”عائد الى حيفا” للمبدع الشهيد غسان كنفاني. والذين رددوا مع الفدائي الشاعر الشهيد علي فودة ” إني اخترتك يا وطني حباً وطواعية .. إني اخترتك يا وطني سراً وعلانية…”.
يا ناجي العليّ!
أمام قبرك وسواده وأسمك الواضح، الذي لاح من بعيد متوهجاً كإسم فلسطين، حضرتني كل هذه الذكريات وكل تلك الأسماء والقصص والروايات والحكايات والتضحيات.حضرتني رسومات كثيرة من رسوماتك والكاريكاتيرات التي كانت تضعها جريدة السفير اللبنانية وتكتب معها “هذا واقع الحال وناجي في إجازة”.. هذا بعد اصابتك بجراح أمام مكاتب جريدة القبس الدولية في منطقة تشيلسي بلندن. لكنها لم تكن إجازة بالمعنى المعروف بل كانت صراعاً مع رصاصات اخترقت رأسك فقتلتهم ولم تقتلك وفضحتهم فيما أعلتك شأناً، وجعلتك أكثر إجلالاً واحتراماً ومحبة.
لأنني يا ناجي العلي لازلت أحترمك وأحبك واعتبرك من المعلمين الثوريين الملهمين الذين تتلمذت على وضوحهم وسلامة مواقفهم وانتماءهم الوطني الأصلب من الصوان، تتلمذت على ذلك في أزقة مخيمنا عين الحلوة وفي مخيمات الجنوب والشمال والعاصمة بيروت، في مواقع النضال حيث كانت رسوماتك وكاريكاتوراتك ملهمة ومصوبة للمسار ومصححة للأخطاء… لأنني أحبك تذكرت عند قبرك الذي لم أجد عليه شاهداً كلمات الشاعر اللبناني العروبي الشهيد موسى زغيب: ” قتلوني يا عار بنادقهم .. يا ذل رغيفهم المجبول شقاء .. قتلوني وأنا أنشودة حب الفقراء .. لم يدروا أن العشب الأخضر ينبث من أضرحة الشهداء.”.
خلال البحث عن قبر ناجي العلي كنت أقول بيني وبين نفسي هذه المقبرة التي دفن فيها فناننا الشهيد أكبر من مخيمه – مخيمي أي مخيمنا أنا وناجي وغسان، مخيم عين الحلوة، بعشرات المرات وربما أكثر من ذلك. فعلاً ناجي الشهيد يرقد منذ اغتياله واستشهاده في منفى آخر حتى وهو ميّت بعدما كان منفياً من فلسطين ولبنان والكويت ثم في لندن وهو حيّ وقبل رحيله.
بالسيارة داخل المقبرة انتشرت القبورالقديمة والأخرى الحديثة التي تعود لأموات من كل الطوائف والديانات وغيرها، انتشرت على جانبي الطريق، نبثت حولها وخلفها وبقربها الأزهار والأشجار والحشائش والأعشاب المنظمة والمرتبة، التي اعتنت بها بشكل جيد أيدي عمال الجبانة.

على الطريق من لندن إلى مقبرة “بروكوود”، في منطقة “ووكينغ” كنت أردد كثيراً بيت شعر للراحل محمود درويش وهو: ” ذهب الذين نحبهم ذهبوا، فإما أن نكون أو لا نكون”. أعجب غسان بالكلمات وصار يرددها معي كلما أعدت تلاوتها. أردت القول بأننا نفتقد لناجي ورسوماته بوصلة الدرب ومصوب المسار كل صباح.. لناجي العلي وعظمته وخفة ظله وقوته وصلابته وموقفه الوطني الذي لا يهادن. لرجل واجه مدارس الفساد والظلم والاستسلام والخيانة والاستبداد والخراب والانحراف.. وحده واجه كل أولائك القتلة والسفلة. يوم قالوا “الناس على دين ملوكها” وأولائك الملوك والحكام كانوا عملاء ومطبعين ومستسلمين وخونة ولازالوا حتى يومنا هذا. تذكرت ما قاله ناجي في كاريكاتوره الشهير “نحن ملحدين”.. يعني اذا الناس على دين ملوكها العملاء فنحن لا نؤمن بالخونة بل المقاومة وبجيل العودة والتحرير والوحدة.
قلت لناجي بأنني جئت حاملاً له سلامات وتحيات من مخيمنا عين الحلوة، من الأوفياء له ولنهج الثورة المستمرة يعني نهج من “باب المخيم الى باب الحرم”… ومن أدباء وشعراء وكُتاب نهج ثقافة التحرير والمقاومة، هؤلاء الذين لم يخربوا ولم يفسدوا كما كثير من كتاب المصادفة… كما بلغته تحياتي اخوتي واخواتي ورفاقي ورفيقاتي في اتحاد الجاليات والمؤسسات الفلسطينية في أوروبا.
قلت له يا ناجي لقد عذبوني كثيراً أحفاد بلفور وتشرشل وروتشيلد في المطار مباشرة عند وصولي. فقلت لهم باختصار شديد “كل شيء لأجل فلسطين”.. لأجل السلم فيها وعودة لاجئيها وشهداءها من مقابرهم في المنافي إلى وطنهم وأرضهم، لكي نضم رفاتهم وعظامهم إلى رفات وعظام آباءهم وأمهاتهم وأجدادهم في مقابر فلسطين الحرة”.

نضال حمد
18-7-2023
هناك جزء ثالث يتبع