وقفة عز

عمى الموت يخطف خوسيه ساراماغو

نضال حمد

رحيل الأديب البرتغالي العالمي خوزيه ساراماغو صديق الشعب الفلسطيني

فقد الأدب العالمي واحداً من أهم رواده إنه الأديب البرتغالي العالمي خوزيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1998 . ولم تفقده الحركة الثقافية الكونية ولاعالم الأدب فقط لا غير، فقبل كل شيء فقدته فلسطين القضية الأممية، التي لها أصدقاء كثرين كما كان خوزيه ساراماغو في حياته وحتى مماته. فهذا الأديب العالمي الكبير الذي زار فلسطين المحتلة مع وفد أدباء وشعراء من كل العالم، سافروا من كل الدنيا إلى فلسطين المحتلة  للتضامن مع فلسطين القضية والأدب والنضال العادل ضد الاحتلال والعنصرية والاستيطان والاجتثات .. حضروا ليقفوا مع الراحل الشاعر محمود دويش وليشاهدوا بأم العين جرائم الاحتلال الصهيوني وعنصرية القائمين عليه ورعاته أينما كانوا … في الضفة الغربية المحتلة تعرفوا على حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال ورحمة الحواجز والجنود المحتلين العنصريين، والمستوطنين الإستعماريين، هؤلاء الذين ورثوا حراس “اوشيفتس”.. فأخترعوا وحشيات أفظع من تلك التي خضع لها أجداد بعضهم هناك .. هؤلاء الجنود يقومون بنفس المهام التي قام بها الأوشفيتيسيين ضد المعتقلين هناك ..

زار ساراماغو مع رفاقه الأدباء مخيم جنين الملحمة الحديثة في نضال شعب فلسطين .. ومن هناك قال خوزيه ساراماغو عن جنين كلمات سوف يبقى صداها مدوياً في ليل الكيان الصهيوني وأنصاره في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وفي آذان كل اليهود، الذين يعتبرون أنفسهم ورثة الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية في أوروبا ….

قال ساراماغو :

«كل ما أعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر، يجب أن تضع قدمك على الأرض لتعرف حقاً ما الذي جرى هنا.. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم أن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف.. لا توجد أفران غاز هنا، ولكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز. هناك أشياء تم فعلها من الجانب “الإسرائيلي” تحمل نفس أعمال النازي أوشفيتس. انها أمور لا تغتفر يتعرض لها الشعب الفلسطيني”.

كان ساراماغو فجع بما رآه وذهل من الاجرام الصهيوني في فلسطين المحتلة ، وكذلك الأمر بالنسبة للمثقفين العالميين الذين كانوا برفقته ومنهم ” وول شوينكا” الحائز أيضاً على جائزة نوبل للآداب .

بدأ ساراماغو الذي ولد في اريناغا البرتغالية سنة 1922 لعائلة من المزارعين المعدومين حياته عاملاً في صناعة الأقفال، ثم تحول الى الكتابة فعمل صحافياً ومترجماً، ومع الأيام وهب نفسه كلياً للأدب. وفي سنة 1947 أصدر روايته الأولى بعنون ” أرض الخطيئة ” ثم بعد ذلك توقف عن الكتابة والنشر نحو عشرون عاماً، وفي سنة 1966 أصدر ديوانه الشعري قصائد محتملة””. ومن راوياته الشهيرة “العمى ” التي نال على اثرها جائزة نوبل للآداب سنة 1998 . وله  اصدارات عديدة بلغت نحو ثلاثين اصداراً، منها كتاب بعنوان ليفنتادو دوتشار 1980 ثم “الاله الأكتع” 1982، سنة موت ريكاردو رييس 1984،  الطوف الحجري 1986، قصة حصار لشبونة 1989، العمى 1995، كل الأسماء 2002، الإنجيل بحسب يسوع المسيح 1992، .. هذا الكتاب أثار ضده زوبعة من الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان، قرر على اثرها الانتقال الى ” لازاروتي” في اسبانيا والعيش هناك حتى وفاته.

بالإضافة لجائزة نوبل للآداب سنة 1998 فقد حصل على جائزة نادي القلم الدولي عام 1982، وعلى جائزة “كأمويس” البرتغالية سنة 1995.

اعتبره الناقد الأمريكي الشهير هارولد بلوم “ الروائي الأكثر موهبة على قيد الحياة، وأضاف بأن هذا المعلم هو أحد آخرعمالقة نوع أدبي في طريقه إلى الإنقراض. هذا الكلام قاله بلوم قبل وفاة ساراماغو. الذي أبدع في مجال الرواية وأثرى المكتبة العالمية بعشرات الأعمال الأدبية المميزة.

كان ساراماغو انسانا طيباً يؤمن بالحرية والعدالة والمساواة بين كل البشر، لذا انضم سنة 1959 الى صفوف الحزب الشيوعي البرتغالي وناضل ضد الديكتاتورية والظلم في البرتغال وكل الدنيا. و ساراماغو عضو فعال في محاربة العولمة ووقع على إعلان “يورطو أليغري” في البرازيل. وهو عضو فعال في محكمة ” برتراند راسل” حول فلسطين التي تأسست في آذار / مارس2009، وهي محكمة تهدف الى حث المنظمات الدولية وخاصة الأمم المتحدة على معاقبة “اسرائيل” وانهاء حالة لا عقابها …  كما أنه شكك بالرواية الرسمية حول هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001. وله مواقف سياسية لاذعة وناقدة بقوة لشخصيات رأسمالية معروفة مثل رئيس الوزراء الايطالي بيرلوسكوني الذي كتب ساراماغو عن فضيحته الجنسية ساخراً منه ومن مواقفه السياسية، ففي يونيو -حزيران من العام الفائت وفي جريدة أيل باييس الاسبانية وصف ساراماغو بيرلوسكوني بالفيروس. وكتب ساراماغو في المقال “وصفت هذا +الشيء+ بالجانح ولا اندم على ذلك”. وجاءت تعليقات ساراماغو في صحيفة ايل باييس على صور تظهر نساء عاريات الصدر ورجلا عاريا كليا التقطت خلال حفلات أقامها بيرلوسكوني في منزله في سردينيا. وكان ساراماغو وصف رئيس الحكومة الايطالي بأنه “جانح” في كتابه الاخير. وأضاف أن بيرلسكوني “منذ سنوات عدة يرتكب هذا الشيء، ولبيرلوسكوني جنحا متفاوتة الخطورة. وهو لا ينتهك القانون بل أسوأ من ذلك يفبرك القوانين لحماية مصالحه العامة والخاصة كسياسي ومقاول ومرافق لقاصرات”. وتابع يقول : “هذا الشيء، هذا المرض، هذا الفيروس يهدد بالتسبب بالموت الاخلاقي لبلاد (جوزيبي) فيردي اذا لم تتمكن عملية تقيوء من الأعماق من إقتلاعه من ضمير الأيطاليين قبل أن يتمكن من قضم الأوردة والقضاء على قلب احدى أغنى ثقافات العالم”. ونبه الى أن بيرلوسكوني “هو شيء خطر للغاية شبيه بكائن بشري، شيء ينظم حفلات وحفلات عربدة ويدير دولة اسمها ايطاليا“. “.

  هذا واشاد الأديب الكبير بالشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش حيث وضعه في مرتبة الشعراء الكبار أمثال بابلو نيرودا.حيث قال خوسيه ساراماغو: درويش بحجم نيرودا و(إسرائيل) جلاد بدون رحمة..

هذا الكلام صدر عن خوسيه ساراماغو الذي كتب بعد عودته من زيارة فلسطين المحتلة مقالة أحدثت ضجة كبيرة ونشرتها صحيفة الحياة اللندنية وفصلية الكرمل الفلسطينية وحملت عنوان :  ” من أحجار داوود إلى دبابات جوليات”، في هذه المقالة اللاذعة والقوية  يعيد ساراماغو النظر، بشكل ساخر ولاذع، في أسطورة داوود و العملاق الفلسطيني جوليات. وأعلن بأن اليهود لم يعودوا يستحقون تفهم المعاناة التي تكبدوها إبان الهولوكوست. وأن عيشهم في ظل المحرقة وأنتظار غفران كل ما يقترفون، بسبب تلك المعاناة، هو مبالغة في التوقعات. وأضاف أنه ظاهر للعيان أنهم لم يتعلموا أي شيئ من آلام آباءهم وأجدادهم.

بعد مقالته القوية وتصريحاته الأقوى بحق الصهيونية الفاشية الاحلالية العنصرية المحتلة في فلسطين غضبت عليه المراكز والمؤسسات الصهيونية واليهودية واللوبي الصهيوني خاصة عصبة مناهضة اللاسامية في شخص رئيسها العنصري المؤيد ل”اسرائيل” ظالمة ومظلومة، أبراهام فوكسمان الذي قال بأن: ” تعليقات سراماغو الهدامة مؤذية بشكل عميق، بالإضافة إلى أنها تظهر جهلا واضحا فيما يتعلق بالحجج التي يسوقها لكي يدعم أحكامه المسبقة عن اليهود..”..

حجج فوكسمان يستخدمها اليهود والصهاينة في كل مناسبة وفي أي زمان ومكان وضد كل من ينتقد الكيان الصهيوني بقوة ويفضح عوراته ويشكف فاشيته وبنيته الإرهابية العنصرية الإستعلائية الإستباحية والدموية. فهذه التصريحات مبرمجة في رؤس وعقول اليهود الصهاينة وأعوانهم في كل العالم. لكنها لم تعد تنطلي على الكثيرين خاصة بعد انكشاف حقيقة كيان الصهاينة وسقوط الأقنعة التي كانت تغطي وجوههم الحقيقية.

في معرض تحديه للصهاينة قام ساراماغو بالتوقيع على رسالة عالمية تدين الحرب العدوانية “الاسراائيلية” على لبنان سنة 2006.  ولم يكتف بذلك بل أعلن في تصريحات عديدة أن الغرب يكيل بمكيالين فيما يتعلق بالصهاينة والفلسطينيين.

عندما أصبح الانترنت سيد المرحلة في عالم اليوم لم يفوت ساراماغو تلك الفرصة التي أتيحت له من أجل التعبير عن آراءه، لذا أصبح مدوناً وهو في الخامسة والثمانين من عمره، حيث إفتتح مدونته سنة 2008، تحت عنوان “دفاتر ساراماغو” مستوحيا إسمها من عنوان كتابه السيرة الذاتية “دفاتر لانزاروتي”، اسم الجزيرة الاسبانية التي اختارها منفى له. ومات فيها يوم أمس الجمعة.

جدير بالذكر أن ساراماغو في خطابه بمناسبة فوزه بنوبل، تحدث عن سنوات الطفولة وأستذكر وفاة جده جيرونيمو فقال : ” ذهب إلى حديقة بيته. هناك بضع شجرات.. أشجار تين وزيتون. ذهب إليها واحدة واحدة وأحتضن الأشجار ليقول لها وداعا، لأنه كان يعرف أنه لن يعود. إن رأيت شيئا كهذا وإن عشته ولمْ يترك فيك ندبا إلى آخر العمر، فإنك رجل بلا إحساس”.  وها هو ساراماغو يرحل في فيئ أشجار لانزاروتي الاسبانية وفي قلبه ظلت راسخة معاني الانتماء للعدالة والحرية والمساواة بين أبناء البشرية .. وللأرض التي تنجب التين والزيتون والليمون والأدباء المرموقين.

 

* مدير موقع الصفصاف

www.safsaf.org  

أوسلو : 19 حزيران – يونيو 2010

Bilderesultat for ‫خوسيه ساراماغو في فلسطين المحتلة‬‎