وقفة عز

عن القضاء والديمقراطية في الساحة الفلسطينية

  نضال حمد

بداية ليعذرنا الشرفاء والأوفياء من أبناء وبنات حركة فتح التي أنجبت رموزا فلسطينية لا تنسى حيث أنها قدمت للقضية الفلسطينية أعمالا عظيمة وتركت بصماتها خالدة في سجل الكفاح الوطني الفلسطيني الطويل. لكن فتح نفسها التي أنجبت أولئك الأبطال، قامت بنفس الوقت بإنجاب طابور طويل من الرموز الفاسدة والساقطة والتافهة لم ولن تُنسى على مر الزمن الفلسطيني. فنفس السجل التاريخي سوف يسجل على صفحاته الأخرى أن مدرسة فتح التي أنجبت أبطالاً ميامين يعتز بهم أهل فلسطين ويجلهم تاريخ شعبها الأبي، هي أيضا التي جاءت بالفساد والمحسوبيات والشللية والاستزلام والتعصب والتزمت في الساحة الفلسطينية… من “غلابة يا فتح يا ثورتنا غلابة” إلى ” أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها”…الخ

للأسف فأن فتح كذلك كانت شجعت كافة الانشقاقات التي حصلت في معظم الفصائل الفلسطينية، حيث لاقت تلك المجموعات المنشقة تأييدا ودعما وتشجيعا من بعض قادتها، ولا نريد ذكر أمثلة على ذلك لأن الجميع يعلم بها وبمن وقف وراءها. كما أننا لسنا الآن في وارد العودة للعملية الفتحاوية التاريخية ولا لتجربة العمل الوطني الفلسطيني بقيادة حركة فتح التي كانت العامود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية. فتلك التجربة برأيي المتواضع انتهت بالفشل الذريع وبالهزيمة التي لازلنا نعيش فصولها منذ الخروج من حصار بيروت الشهير وصولا إلى أوسلو وسنواتها العجاف.

 سنتحدث ونناقش هنا فقط موضوع ديمقراطية السلطة الفلسطينية فهو بكل بساطة مشروع  فتح كما عرفناه وعشناه في بيروت وتونس وغزة وأريحا ورام الله. سنقتصد في كتابتنا ونحصر أنفسنا في قضية المحاكم والقضاء وعدم قبول الحركة بنتائج انتخابات رفح والبريج وبيت لاهيا حيث خسرت خسارة فظيعة لصالح فوز حركة حماس بالذات. عدم قبول فتح بمبدأ الخسارة والفشل في الانتخابات البلدية يعني رفض الاعتراف بالهزيمة، ثم استغلال القضاء الفتحاوي السلطوي لإبطال النتائج. لاأعتقد أن حماس ستقبل بهذه السهولة الاحتيال على فوزها وإفشاله عبر قضاء مشكوك بنزاهته، كما لا أعتقد أن فتح ستقبل الاستسلام للنتائج الانتخابية التي وضعتها خلف حماس وعلى مسافة كبيرة من الحركة الإسلامية الصاعدة بقوة وبسرعة فائقة. لا ندعي هنا أن فتح لم تعد قوية بل نقول أنها لم تعد الرقم واحد في الساحة الفلسطينية. وهذه النتيجة بحد ذاتها تستدعي من حركة فتح أن تسال نفسها لماذا، ومن ثم تخرج بالأجوبة التي قد تساعدها على الخروج من أزمتها وتجاوز هزيمتها وهزيمة المشروع الوطني والعلماني الذي قادته مع الفصائل الحليفة في المنظمة سابقا وفي السلطة لاحقاً، لحساب المشروع الإسلامي الصاعد والمندفع بقوة.

تصريحات أقطاب وقيادات جناح فتح المرتبط بالسلطة والعملية السلمية وبالذات قياداتها في غزة بعد أن خسرت الحركة انتخابات البلدية السابقة واللاحقة في القطاع أخذت تزداد، كما أنها أخذت منحى خطيرا من حيث قيامها بإستعمال ما يشبه فتاوى أفتى بها أعضاء في اللجنة المركزية لفتح. فقبل فتوى تحريف وتأويل حماس لكلمات القرآن، كانت هناك فتوى من أحد أعضاء اللجنة المركزية لفتح بتنصيب قيادة جديدة على رأس اتحاد الكتاب الفلسطينيين، عملاً بالديمقراطية التي إعتاد عليها جماعة فساد سلام الشجعان والناطقين بإسمه. كما قام عضو آخر في اللجنة المركزية لفتح بإتهام حركة حماس بتحريف وتأويل كلمات من القرآن الكريم.. وذكر في مؤتمر صحفي عقده في مدينة غزة أن حركة حماس تمارس أنواعاً من التحريض السياسي ضد حركته، وأنها تقوم ببعض التعديات الشرعية على القرآن الكريم عبر التحريف والتأويل، وأورد خلال حديثه مثالا على ذلك قول أعضاء حماس ” أن أبناء فتح  قتلوا الديمقراطية، مشبهين ذلك بالكفار الذين كانوا يقتلون البنات وهم أحياء”. وهنا يجب التصحيح لأن التعبير الأصح هو أن الكفار في الجاهلية كانوا قبل الإسلام يوأدون الفتيات وهن أحياء. وإذا صح ذلك الاتهام الفتحاوي لحماس، فنحن نلوم حركة حماس ونطالبها بتصحيح لغة أعضائها وأنصارها حتى تكون عقلانية وواقعية في تعاملها مع الأخوة في حركة فتح والفصائل الأخرى.

لم يغب عن بال المسئول الفتحاوي الذي شبع من خيرات الديمقراطية الفتحاوية التي حكمت م ت ف لأكثر من أربعين عاما، ثم قامت بعد هزيمتها في سلام الشجعان بالالتفاف على المنظمة ووضعها على الرف، محطمة بجرة قلم تاريخ طويل من النضال الوطني الفلسطيني تعمد بدماء أبناء وبنات فتح وكافة الفصائل الفلسطينية التي كانت تنضوي تحت لواء المنظمة. وهنا نذكره بان التذكير بقوة حركته وشرعية السلطة الفلسطينية التي تقودها تلك الحركة وتقود أيضا المنظمة ليس وماعاد ميزانا للإحترام والاستمرارية ولا هو قانوني لأنه تقادم وأهترأ. ثم عليه أن يتذكر مثلما نحن نتذكر أن لتلك المنظمة تاريخ مرير مع فتح وديمقراطيتها العجيبة الغريبة، ونحن نذكر أن ديمقراطية فتح أعطت الفصائل أو “الفسائل” في منظمة التحرير الفلسطينية 3 سفراء فقط لا غير، ليصبح بعضهم بعد عدة سنوات من العمل في السفارات والممثليات عرفاتي “نسبة للرئيس الراحل الشهيد ياسر عرفات” أكثر من الفتحاويين أنفسهم، ثم وضعوا أنفسهم تحت تصرف فتح، فَوُضِعوا فيما بعد في جيب الحركة، وقَبِلوا راضين بذلك حرصاً على وظائفهم ومكتسباتهم. أما في مقابل ال3 سفراء كانت حركة فتح تحتكر كافة السفراء والمندوبين في كافة السفارات والممثليات الأخرى، وكانت تضع السفراء بمزاجية وفوضى غريبة عجيبة، حيث منهم من لا يفقه اللغات ولا يستطيع فهم المصطلحات السياسية والدبلوماسية التي يسمعها من سفراء وسياسيين أجانب، ومنهم تجار سيارات ودعوات ووطن… جهلة في أمكنة لا تصلح لأمثالهم، سفراء يتملكنا القرف حين نتذكر معظمهم وحين نرى بعضهم على شاشات التلفاز وفي الأخبار وهم لا يعرفون كيف يقدمون النعي اللائق لرئيسهم أو استغلال استشهاده بشكل يخدم قضيتهم، وهذا كله قليل من كثير … لكن وحرصا على الأمانة المهنية والموضوعية والسمعة الوطنية، يجب أن نقول أنه كان للمنظمة ولازال هناك بعض السفراء الذين على شعبنا أن يفخر بهم ويجلهم ويقدرهم على علمهم وقدراتهم وحبهم لوطنهم وقضيتهم وتفانيهم في عملهم الوطني..

 

 كل تلك الأشياء كانت ولازالت تحدث ضمن الديمقراطية الفتحاوية التي حكمت المنظمة ولازالت تحكم الوضع الفلسطيني الرسمي… ومن أجل الحفاظ على تلك الديمقراطية ارتضت فصائل التبعية لفتح وتنظيمات اليسار الفلسطيني الكبيرة والصغيرة بالفتات، ومن رفض منها تم تجويعه وشقه وتفتيته أو تركيعه كما حصل مع بعضها، وكما يحصل الآن مع التيار الفتحاوي الرافض لأوسلو … تلك السياسة “الديمقراطية” هي التي أوصلت في نهاية المطاف إلى التنازل عن كل شيء مقابل سلطة أوسلو ومشتقاتها. وما ينطبق على السفراء الثلاثة  “للفسائل ” ينطبق على التنظيمات العشرة التي كان أعضاؤها مجرد أعضاء لجنة “تنفيسيه” وليس تنفيذية كما وصفهم الشهيد المبدع ناجي العلي في واحد من كاريكاتيراته الكثيرة، والآن هؤلاء الأعضاء شهود زور وأختاما تشرع التنازلات والإحتيال على القانون والدستور.. كل ذلك كان يتم بفضل شراء الذمم والضمائر وبيع المواقف، من قبل بعض أعضاء اللجنة التنفيذية والمجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية… ومن هنا تأتي ضرورة إعادة بناء وتشييد منظمة التحرير الفلسطينية على أساس سليم ووطني وشفاف وديمقراطي حقيقي وليس فقط على أساس التقاسم بين الفصائل والحركات والجماعات. فالمنظمة بيت الشعب الفلسطيني الواحد والجامع لذا مطلوب أن يكون هناك انتخابات لمجلسها الوطني، وان يكون التمثيل للمخيمات والشعب والجاليات في الشتاتين العربي والعالمي موجودا وحاضرا بحجم قوة هؤلاء.

 

أن تحدث انتخابات شرعية وديمقراطية للمجالس البلدية وتكسبها حركة غير فتح أصبح أمرا عاديا بالنسبة لأي متابع فلسطيني، ففتح التي كانت قبل أوسلو انتهت، ولن تعد كما كانت حتى لو عادت منظمة التحرير الفلسطينية تقود شعب فلسطين، هذا طبعا بعد أن يتم تجديدها و تصحيحها وصيانتها وترميمها وإعادة بنائها من جديد لتشمل كل المستجدات في الساحة الفلسطينية. والى أن يُعاد بناء المنظمة علينا الاعتياد على تصريحات مشابهة لتصريحات مفتي اللجنة المركزية. ويوم تقبل فتح بخسارتها وتعترف بفشل مشروعها الاوسلوي الهدام وتعود للينابيع الفتحاوية سوف يكون للديمقراطية الفلسطينية دورها المتألق في تعزيز العدالة والديمقراطية في شرق المتوسط. وسوف يطمئن أبناء شعب فلسطين إلى أن الديمقراطية الفلسطينية بدأت تتعافى وتعيد إشعاعها وبريقها ولمعانها الذين فقدتهم باسم سلام الشجعان. وعندها لا يعود هناك مبرر لأي مفتي حركي أو فصائلي كي يتحدث عن اتفاقية مع حماس حول اللجوء للقضاء في حال حدوث تجاوزات. فالقضاء هو القضاء والقانون في البلاد التي تحترم القانون يبقي القانون فوق الجميع. ولكن لا يمكن احترام قانون أو قضاء قضاته من لون واحد وأهدافهم سياسية وفئوية وليست قانونية.

لجأت فتح للقضاء في قضية تجاوزات ادعت أنها حصلت في رفح والبريج وبيت لاهيا وحكم لها القضاء “النزيه” بإعادة الانتخابات في بعض مناطق رفح. ولم تقف تصريحاتهم في غزة عند هذا الحد فقد صرح قائد آخر أقل مرتبة من السابق انه يرى “من الضرورة أن تقوم حركة فتح بالمراقبة على الانتخابات البلدية”.. لكن إذا قامت فتح بالمراقبة على الانتخابات فأين دور القضاء العادل والنزيه؟ .. ألا يعني ذلك أن على الديمقراطية ومن يؤمن بها السلام

في الختام نقول أن فتح ليست وحدها المسئولة عما جرى ويجري في الساحة الفلسطينية فصمت الفصائل الأخرى وقبولها بما منحته لها فتح وقلة حيلتها وعدم تحملها المسئوليات التاريخية الجمة، لم يترك لفتح خيارات أخرى سوى أن تسير بالقطار وفق ما تراه مناسبا ووفق ما يلبي مصالحها التنظيمية ومصالح قيادتها السياسية. لكن فتح للأسف سارت بالقطار إلى حافة الهاوية، لذا على الشعب الفلسطيني الآن أن يجد من يقود القطار بين حقول الألغام متجاوزا الهاوية ومعيدا الوضع إلى نصابه. فمن غير المقبول ولا المعقول أن تبقى القضية الفلسطينية رهينة المحبسين، محبس الاحتلال ومحبس سلطة أوسلو – شرم الشيخ.

 

2005