الأخبار

منظمة التحرير الفلسطينية: ماذا تبقّى منها؟! – رشاد أبوشاور

سألت نفسي: ماذا أكتب مساهما في هذا الكتاب الذي شغلني أنا والصديق فيصل جلول، وأخذ منا وقتا وجهدا؟

هناك مواضيع كثيرة ملحة يمكن الكتابة حولها، وهي تهم القارئ والمتابع العربي للشأن الفلسطيني، وللقضية الفلسطينية، ولحالة الهوان العربي الرسمي التي تنعكس في المقدمة، ودائما، على القضية الفلسطينية.

ترددت بين الكتابة عن الذاكرة الفلسطينية الفردية والجمعية، أو الكتابة في موضوع غير واضح حتى لبعض المتابعين العرب للشأن الفلسطيني، وهو: منظمة التحرير الفلسطينية وتزوير وجهها ودورها، وتحويلها إلى قناع لتقديم التنازلات للعدو الصهيوني، وللأنظمة الرسمية العربية المتواطئة علنا.. في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد ( أوسلو) 1993 الذي منحها وقاحة الادعاء بأنها ترضى بما يرضى به الفلسطينيون، وأنها لن تكون أكثر ملكية من الملك.

بعد أوسلو عقد الأردن اتفاقية وادي عربة، ومن قبل خرج السادات على الأمة العربية كلها وأبرم مع مناحم بيغن اتفاقية كامب ديفد، بالرعاية الأمريكية، وأخرج مصر عن دورها، وعن أمتها، وفتح أبواب مصر في ما سمي زمن الانفتاح، وأعلن بأن حرب تشرين – أكتوبر هي آخر الحروب، وبهذا أنهى ما كان يسمى وحدة الصف العربي الشكلية، وبدأ زمن: نحن أولاً.. مصلحتنا أولاً، فباتت القضية الفلسطينية مجرد صراع إقليمي فلسطيني – ( إسرائيلي)!!.

بعد طول تأمل اتخذت قراري بأن أطرح السؤال التالي: ماذا بقي من منظمة التحرير الفلسطينية؟ وأحاول الإجابة عليه، علّي أسهم في حوار جدي، وأقدم (معرفة) بواقع حال منظمة التحرير الفلسطينية راهنا، وتذكيرا بمسيرتها، وما آلت إليه في متاهة البحث عن حلول ( سلمية) – هي في الجوهر استسلاميه- بل وتدمير مقصود، وإفراغ من الدور الذي نشأت من أجله.

منذ سنوات وأنا أتألم لما آلت إليه منظمة التحرير الفلسطينية، ولامتهان اسمها، وتراثها، وتزييف حضورها، وتحويلها إلى ( ممسحة) على أعتاب أعداء فلسطين.

ينطلي على كل من يسمع اسم منظمة التحرير الفلسطينية أنها موجودة، وأنها هي التي فاوضت في عتمات أوسلو من وراء ظهر الشعب العربي الفلسطيني، وأنها من وقعت على اتفاقات أوسلو في باحة البيت الأبيض في واشنطن بتاريخ 13 أيلول، 1993، وهذا غير صحيح، بل هو التزوير بعينه.

من موقعي كمواطن عربي فلسطيني، وكعضو مجلس وطني فلسطيني منذ العام1983، وككاتب عربي فلسطيني، فإنني أجد من واجبي أن أسهم في تبرئة منظمة التحرير الفلسطينية من كل ما لحق بها، وتطهيرها من الدنس الذي ألحقه بها أوسلو، وتحميلها كل الأخطاء والآثام والخسارات من قبل من فاوضوا ووقعوا ، وما زالوا سادرين في غيهم رغم ضياع الأرض، وانتشار الاستيطان السرطاني في الضفة الفلسطينية، وغزو قرابة المليون مستوطن للضفة الفلسطينية والقدس التي هوّدت والتي تخنق بالمستوطنات المُسمنة يوميا.

منظمة التحرير الفلسطينية بريئة من كل هذا، وهي مغيبة، ومنتحل تمثيلها، وهي لا تعدو أن تكون قناعا وبراي المتنازلون وراءه وجوههم الحقيقية.

بدأ الكذب على منظمة التحرير بترويج انها صناعة الأنظمة العربية، ومن لم يعيشوا فترة بروز المنظمة ستمر عليهم الكذبة والتزوير، بسبب النفور من الأنظمة العربية، ولذا لا بد من تذكير من نسي، وتعريف من لا يعرف من الأجيال التي لم تطلع على الحقائق والوقائع بالحقيقة.

أعلن العدو الصهيوني بأنه سيحول منابع نهر الأردن، وكانت هذه خطوة غاية في الخطورة، فدعا الرئيس جمال عبد الناصر إلى مؤتمر قمة عربية عاجل عقد في القاهرة، في مقر جامعة الدول العربية بتاريخ 13 كانون ثاني / يناير 1964، وكان أحد الذين حضروا المؤتمر الأستاذ أحمد الشقيري ممثل فلسطين في الجامعة العربية، وقد تم انتدابه ليتصل بالتجمعات الفلسطينية ، وهنا أستشهد بما كتبه المناضل والصحفي الكبير الأستاذ شفيق الحوت في مذكراته: في الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير 1964، وفي لحظة تاريخية ، انعقدت القمة العربية الموعودة، وخرج المؤتمر بمجموعة من التوصيات يهمنا واحدة منها لم تتجاوز كلماتها أربعة سطور، جاء فيها: يستمر السيد أحمد الشقيري ممثل فلسطين لدى جامعة الدول العربية في اتصالاته بالدول الأعضاء، والشعب الفلسطيني، بغية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني، وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره. (ص91 مذكرات شفيق الحوت: بين الوطن والمنفى) .

ويضيف الأستاذ الحوت: توصية عامة لا ذكر فيها ولا إشارة إلى كلمة (كيان) أو ( منظمة) أو ( شخصية وطنية)، أو أي شيء من هذا القبيل، توصية عامة وغامضة، ومن دون آلية، وتعطي الدول العربية أولوية على الشعب صاحب القضية في تقرير مصيره. (ص 91) نفس المصدر.

وإنصافا للأستاذ أحمد الشقيري، وعزيمته التي تميز بها، وإصراره على تحقيق مصلحة الشعب العربي الفلسطيني المغيّب، يكتب الأستاذ الحوت: لكن بدلاً من النواح والغضب والصراخ في الأودية، حمل الشقيري هذه السطور الأربعة في حقيبته، عازما أمره على تحويلها إلى حقيقة مادية راسخة ، وانطلق مرة ثانية يزور مراكز التجمع الفلسطينية حيثما أمكنه، ، ليعد عدته لعقد اللقاء التاريخي المرتقب لتأسيس الكيان الوطني الفلسطيني. وبعد مشاورات مضنية مع بعض العواصم العربية والقيادات الفلسطينية، تحدد أن يعقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته التأسيسية الأولى في الثامن والعشرين من أيار /مايو 1964 في مدينة القدس. ( ص92 نفس المصدر).
هل مرت الأمور بيسر وسلاسة؟ لو كان نشوء منظمة التحرير الفلسطينية قرارا عربيا رسميا لتحقق الأمر بيسر وسهولة، ولكن حقائق الأمور لم تكن كذلك. لنتأمل ما كتبه الأستاذ شفيق الحوت، وأنا أستشهد بما كتبه الصحفي المناضل شفيق الحوت لمصداقيته، ولأنه تابع تأسيس المنظمة منذ لحظاتها الأولى، وعرف مواقف الدول العربية آنذاك بالتفاصيل.

بعد التأسيس في القدس، كان على الأستاذ الشقيري أن يواجه الرفض العربي الرسمي لخطوات تأسيس المنظمة، ولمؤتمرها الأول في القدس: ومن فندق ( إنتر كونتيننتال) في القدس إلى فندق فلسطين في الإسكندرية ، حيث كان الملوك والرؤساء على موعد مع قمتهم الثانية ، وذلك يوم الخامس من أيلول سبتمبر 1964. وكان على الشقيري أن يدلي بمرافعة طويلة كي يتمكن من انتزاع قرار يعطيه الضوء الأخضر لإعلان قيام منظمة التحرير بشرعية عربية ، تمهيدا لبدء عملية البناء.

كان من الممكن أن يفلت زمام الأمور في خضم التناقضات العربية ، وتصور كل عاصمة عربية لماهية دور المنظمة، فمنها من كان يريدها ( يافطة)، أو ( عنوانا) لفلسطين شعبا وقضية ، لا أكثر ولا أقل، ، ومنها من كان يريد أن يمتطيها سلفا عن طريق المزايدات، وغيرهم على العكس يريد (ترويضها) ثم استيعابها كورقة في جيبه، وطبعا كان هناك من الدول من هو موجود لكنه في سبات عميق.

وكالعادة لولا تدخل الرئيسين عبد الناصر وبن بيلا لما تلحلحت الأمور، ولا سيما بعد أن ضم عبد السلام عارف صوته إلى صوتيهما، وبادر بأريحية عراقية إلى إعلانه مساعدة مالية _ كدفعة أولى- لحساب المنظمة، وأقفل النقاش وتمت الموافقة على قيام منظمة التحرير الفلسطينية . ( ص 93 نفس الكتاب) .

استشهدت بفقرات طويلة من مذكرات الأستاذ المرحوم شفيق الحوت، لأنه شاهد وشارك عن قرب، وكم أتمنى على كل مهتم أن يتأمل كل صفة وضعها بين قوسين للدول العربية آنذاك، والتي تبرهن على أنها بمجموعها كانت رافضة لنشوء وبروز منظمة تحرير فلسطينية حقيقة، لولا ( ثقل) حضور الرئيس جمال عبد الناصر ومصر التي يقودها، ودور الرئيس الجزائري المناضل أحمد بن بلة،، وانضمام رئيس العراق عبد السلام عارف لهما .

هل يتصور أحد أن خلافا نشأ واحتاج لدهاء وجرأة الأستاذ الشقيري للجلوس مع الملوك والرؤساء؟

يكتب الأستاذ الشقيري: وغداة وصولي للقاهرة وجدت خبراء الفقه الدستوري، والعرافين بالمراسم الدولية مشغولين بأمري: هل يحضر ممثل فلسطين مؤتمر الملوك والرؤساء، وهو ليس من الملوك والرؤساء؟ وخضت مع الخائضين في هذه الأبحاث القانونية ، ولما لم أجد سندا في ( القانون) لجأت إلى الإنذاار بالاستقالة من المهمة التي أوكلت لي!

في النهاية تقرر ان يجلس ممثل فلسطين على كرسي عادي، مختلف عن كراسي الملوك والرؤساء، وأن يكون الكرسي بعيدا بمقدار خطوتين إلى الوراء عن كراسي الملوك والرؤساء.( من كتاب: مع الملوك والرؤساء ، المجلد الثاني من الأعمال الكاملة ص38 )

ولكن الأستاذ الشقيري اقتحم القاعة، ودفع بكرسيه_ كرسي فلسطين العادي الأقل أهمية من كراسي الملوك والرؤساء العرب، وجلس بجوار الملك الحسن الثاني، وسط ذهول خبراء البروتوكول والتشريفات الذين بلعوا ما رأوا مضطرين!

الشقيري انتزع كرسيا لفلسطين، رغم عدم ترحيب كثير من الملوك والرؤساء، وحمل قصاصة ورقة وبها أنشأ منظمة التحرير الفلسطينية.

عن معاناته في مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في القاهرة في جامعة الدول العربية، وفي كتابه ( مع الملوك والرؤساء ص 52) كتب: وعدت إلى منزلي وأنا افكر في الأمانة الثقيلة التي آلت على كتفي، واسمها تنظيم الشعب الفلسطيني،. لقد عاد الملوك والرؤساء إلى عواصمهم، يطلقون التصريحات الكبيرة ، يتفاخرون بإنجازات مؤتمرهم، وبقيت أنا وحدي أفكر بالكيان الفلسطيني، كيف أبدا من نقطة الصفر ومن العدم.. من الفراغ الرهيب، وكيف أبنيه مع حكومات عربية متفرقة ؟ ومع الشعب الفلسطيني الشريد الطريد؟ ولم يمنحني مؤتمر القمة إلاّ قرارا من سطرين، بأن (أتصل بالدول العربية ، والشعب الفلسطيني بغية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني) ( ص52)

ذلك هو القرار الذي أصدره مؤتمر القمة، وخرجت من المؤتمر وليس في جيبي إلاّ هذا القرار.

لم ( يلملم) مؤسس وباني منظمة التحرير الفلسطينية أشخاصا يخضعون له، بل اختار رجالاً أكفاء يتمتعون بسمعة وطنية، وبتاريخ وطني معروف لدى الشعب العربي الفلسطيني.

يكتب الأستاذ بهجت أبوغربية – شيخ المناضلين في الضفتين، في كتابه ( من النكبة إلى الانتفاضة) : لم أكن أتوقع، بل لم يخطر ببالي أن يعرض علي أحمد الشقيري الاشتراك في عضوية اللجنة التنفيذية، إذ أن الأجواء التي سادت بيننا قبيل انعقاد المؤتمر الأول لم تكن إيجابية، وعندما زارني في بيتي الصديق عبد الخالق يغمور رئيس بلدية مدينة الخليل الذي رافق الشقيري في جولاته في الضفة الغربية ، وعرض علي الاشتراك في عضوية اللجنة التنفيذية بتكليف من الشقيري، لم يكن من السهل علي اتخذا القرار، وتداولت الأمر طويلاً مع عبد الخالق يغمور من عدة أوجه. (ص264)

كان الأستاذ الشقيري يبحث عن الشخصيات الوطنية المشهود لها لدى الشعب الفلسطيني، ولذا أصر على ضمهم، ومنهم الأستاذ المناضل الكبير بهجت ابوغربية صاحب التاريخ الوطني العريق.

لم يكن الشقيري يسعى لجذب وتعيين ( إمعات) مهمتهم الموافقة على ما يقول ومايريد، وهذا ما لفت الانتباه في شهادة الأستاذ بهجت أبوغربية، فهو يثبت أن الأستاذ الشقيري اختاره رغم الخلافات قبل أن انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القدس، وهي خلافات بدت حادة.. ولكنه وافق وانضم لأول لجنة تنفيذية، ضمن كفاءات وثق بها شعبنا، وراهن عليها، وهي مع الأستاذ الشقيري التي أسست وبنت: المجلس الوطني الفلسطيني، وجيش التحرير الفلسطيني، والمنظمات والاتحادات الشعبية، ومركز الأبحاث الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني.. أي أرست دعائم وأسس منظمة التحرير الفلسطينية بميثاقها الذي وضعه الأستاذ الشقيري وهو المحامي المشهود له في الدفاع عن ثوار فلسطين إبان الانتداب البريطاني، والوطني والقومي العربي الذي يملك تاريخا ناصعا، والديبلوماسي الخبير في الأمم المتحدة طيلة خمسة عشر عاما مثل فيها سورية، والسعودية., وخرج منها بنتيجة حاسمة: لا أمل في أن نحصل على حقوقنا من هيئة الأمم المتحدة، ومن العمل الديبلوماسي.

إن من يتأمل موقف السعودية السلبي والرافض لترؤس الأستاذ الشقيري لمنظمة التحرير الفلسطينية، يعرف أن السبب المباشر يعود إلى رفض الشقيري تقديم شكوى ضد مصر في هيئة الأمم باسم السعودية تتهمها بالتدخل في اليمن، ومن ثم الاستقالة من موقعه كممثل للسعودية في هيئة الأمم، ليصار إلى تعيينه بدفع من مصر التي حفظت له هذا الموقف القومي الشريف والجريء، ممثلا لفلسطين في الجامعة العربية.

عندما حضر الأستاذ الشقيري إلى دمشق نزل في فندق ( أمية) المتواضع في بوابة الصالحية، فتجمعنا نفر من شباب فلسطين وكتبنا مذكرة عن أحوال الفلسطينيين في سورية، وحملناها له، وتوجهنا إلى الفندق، والذي كان محاصرا برجال الأمن بملابس مدنية، وانتظرنا طويلا حتى فرغ من لقاء وفد الهيئة العربية العليا – التي كان يقودها الحاج أمين الحسيني_ وعندما ودعهم في بهو الفندق، تقدمنا منه، وصافحناه وقبلناه، وقلنا له : نحن معك، وشعبنا معك، فلا تأبه لبعض الأصوات المشاغبة ، وقدمنا له المذكرة، فقال باهتمام: سأقرأها، وأتمعن فيها، وأستفيد منها.. بارك الله بكم أنتم الشباب. أنا أراهن عليكم.. وودعناه وانصرفنا ونحن نشعر بأننا نطير في السماء ، فقد التقينا بزعيمنا، وأوصلنا له صوتنا.

بجهد خارق تمكن الشقيري من تثبيت حضور منظمة التحرير الفلسطينية، برجال اختارهم بجدارة ليكونوا رفاق دربه، لا إمعات، ولا خانعين، ولكنهم رجال يتمتعون بسمعة طيبة ، وبتاريخ مشرف، وبوطنية صادقة، ليحظوا باحترام شعب فلسطين وليكونوا قادرين على مواجهة الظروف الشاقة، والمؤامرات التي لن تتوقف عن استهداف مسيرة المنظمة، وزرع العوائق في طريقها.

الكرسي العادي المتأخر بعيدا عن الكراسي الفخمة للملوك والرؤساء الذي تقرر لممثل فلسطين الأستاذ الشقيري تحول إلى كرسي له اعتبار وحضور وبه انطلق الشقيري ليكون كرسيا لفلسطين، ولمنظمة التحرير الفلسطينية الراسخة الحضور والبنيان، والتي تحولت إلى حقيقة أكيدة يلتف حولها شعب فلسطين العربي الأصيل، معلنا عن حضوره واستعداده للمساهمة في تحرير فلسطين، وفي المقدمة.

هذا الكرسي يختلف كثيرا ويتناقض مع الكرسي الذي أُجلس عليه أبو مازن في كنف البيت الأبيض يوم 13 أيلول 1993.

يكتب أبومازن في كتابه (طريق أوسلو) ما يلي: وقد سألني الكثيرون عن عدد من الحركات واللفتات التي وقعت _ يقصد أثناء حفل التوقيع_ مثل قولهم أن الرئيس كلينتون قدم لي الكرسي عندما جلست للتوقيع، ولكني لم الحظ ذلك، ربما لأن الهواجس وحرارة الموقف صرفتنا عن ملاحظة أمور كثيرة. ( ص 11)

طبعا كان أبومازن منتشيا مذهولاً بالحفاوة في كنف البيت الأبيض، فأخيرا تكللت مسيرة سيرهم على مسار التسوية بالتوقيع في البيت الأبيض على كرسي ( سلام أوسلو)!

كرسي الشقيري كرّس بداية تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى كرسي أبي مازن كتبت نهايتها، وخاتمة مسيرة اختطافها وتزوير وجهها.

يكتب أبومازن: الاستقبال الرسمي وغير الرسمي من مختلف الشخصيات الأمريكية التي تقاطرت للقاء. وسائل الإعلام التي تشيد بمنظمة التحرير ومواقفها البناءة وجهودها العظيمة في الوصول إلى السلام، ولم تتوقف آثار العصا السحرية عند هؤلاء، بل تجاوزتهم جميعا إلى الجالية اليهودية والعربية اللتين كانتا إلى ذلك اليوم 13/9/1993 متعاديتين، وإذا بهما تحضران الاستقبالات المشتركة وتتبادلان التهاني والتمنيات وتمسحان عقودا طويلة من الخصام. ( ص19)

يا لها من خاتمة تبعث على النشوة ! إنها نهاية فيلم عربي.. بلّع السادات الأمة كأس ( كامب ديفد) سما زعافا، وها هم (نجوم) أوسلو الفلسطينيون يجرعون فلسطين وشعبها وأمتها الكأس ثانية، وببشاعة أكبر، وبخسارة أفجع!
بالتوقيع في كنف البيت الأبيض ساد الوئام وانتهى الخصام، والجاليتان اليهودية والعربية تعانقتا.. والإعلام الأمريكي رحب وبارك منظمة التحرير الفلسطينية التي أُجلست على الكرسي الأمريكي في البيت الأبيض.. أما منظمة التحرير بقيادة الشقيري في زمن جمال عبد الناصر فحكم عليها بأنها إرهابية يجب محاربتها لأنها خطر على ( إسرائيل)..وأما رئيسها ومؤسسها الأستاذ أحمد الشقيري فهو ( لا سامي)!

يقر أبومازن بأن حدث 13 أيلول لم يأت صدفة، وأنه جاء تتويجا لمسيرة طويلة: وهكذا فإن اتفاقية السلام التي وقعناها في 13/9/1993 في البيت الأبيض في واشنطن لم تأت صدفة، ولم تكن نتيجة المفاوضات التي جرت في أميركا، أو في أوسلو فحسب، بل جاءت نتيجة تراكمات كثيرة ساهمت فيها أعمال الثورة الفلسطينية العسكرية والسياسية والإعلامية، وساهمت فيها ست سنوات من الانتفاضة المباركة.. ( كتاب طريق أوسلو ص33)
اتفاقية السلام جاءت نتيجة مسيرة طويلة من التنازلات في محطات سارتها الجهة التي انتحلت تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية، سواء بطرح ( سلطة وطنية على كل شبر ينسحب منه الاحتلال)_ وهذا الشعار رفع بعد حرب تشرين 1973، أو ( دولة ديمقراطية) أو ( القرار الفلسطيني المستقل) ..وهو مستقل عن إيمان الجماهير الفلسطينية بحقها في وطنها فلسطين، ومستقل عن ملايين الجماهير العربية، وليس عن الأنظمة الرسمية العربية التي نسقت معها تلك القيادة، واستظلت بها في مسيرتها ( للتسوية) من نظام مبارك إلى نظام آل سعود.
لقد استقلوا بالقرار فوصلوا به إلى الحضيض، وبشروا بسلام يهبهم دولة فلسطينية فانتهت المسيرة _ حتى اللحظة.. ويا هول ما هو قادم!!_ بتهويد القدس، وابتلاع أغلب أراضي الضفة ومياهها ، وحولت مدنها إلى معازل، وتمزقت الوحدة الوطنية الفلسطينية. ( الحق أن حماس لها دور كبير في هذا).

يصف أبومازن منظمة التحرير الفلسطينية بأنها وليدة الأنظمة العربية، وهذا ما روجته قيادة فتح منذ نشوء المنظمة، لأنها رأت أن المنظمة ستجتذب ملايين الفلسطينيين، ولأنها مدعومة من مصر الناصرية قائدة الكفاح العربي، وحركة التحرر العربية، ومعها الجزائر المنتصرة المستقلة.. يكتب : كانت منظمة التحرير الفلسطينية وليدة الأنظمة العربية ، ولم تكن تلك الحاجة تلبي رغبات الجماهير، لقناعة هذه الجماهير أن ما تمخضت عنه الأنظمة لا بد أن يكون على شاكلتها يحمل في بطنها جينات عجزها، ويرث عنها كل مواصفاتها وكل أسباب وهنها. ومع ذلك فقد رأى فيها الفلسطينيون عنوانهم الذي افتقدوه منذ النكبة، ويافطة يصطفون تحتها بعد أن تعددت اليافطات واختلفت وتناقضت، ووطنا معنويا بعد أن عز وطن الواقع. ( ص23)

يعرف أبومازن، وقيادة فتح التاريخية، أن منظمة التحرير الفلسطينية ليست وليدة الأنظمة العربية، وأنها ولدت بدعم من جمال عبد الناصر ومصر الناصرية، وأن الأستاذ الشقيري قاد عملية البناء منذ المؤتمر الأول في القدس: مجلس وطني فلسطيني. ميثاق قومي، لجنة تنفيذية، قرار بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، وقد تم إنشاء الجيش في غزة، ورفع علم فلسطين وحيته الكتائب الأولى، وجلب له السلاح من الصين وألمانيا الشرقية، ومن مصر بطبيعة الحال.. ومنظمات شعبية حقيقية فاعلة وغير مفتعلة ولا مزورة!

يضطر أبو مازن أن يعترف في نفس الفقرة بأن الفلسطينيين رأوا في المنظمة عنوانهم الذي افتقدوه.. ولا ينتبه لتناقضه ..فالشعب الفلسطيني التف حول المنظمة لمصداقية من أنشأها، ومن قادوها، ولأن جمال عبد الناصر هو من يقف وراء إنشائها.

منذ العام 1969 هيمنت قيادة فتح على منظمة التحرير الفلسطينية، وتكرس أبوعمار، قائد فتح، رئيسا للمنظمة، وتواصلت المسيرة غير المُظفّرة حتى يوم 13 أيلول في البيت الأبيض.. ومعترفة ( بإسرائيل) دولة مستقلة، رغم أنها _ أي ( إسرائيل) دولة لم تحدد حدودها حتى اليوم، بما في ذلك يوم التوقيع على الكرسي الذي دفعه كلينتون تحت أبي مازن ليوقع وهو يجلس عليه منهيا كل ما وجدت المنظمة من أجله.

كتب الأستاذ أحمد الشقيري الميثاق القومي الفلسطيني، ثم عرضه على المجلس الوطني الفلسطيني، فكان أن أُقر بعد مناقشته.

لم يكن صدقة أن يوصف الميثاق بأنه ( قومي) ففلسطين هي القضية العربية القومية بامتياز، ولا يمكن أن تكون قضية صراع ( إقليمي) بين الفلسطينيين و( الإسرائيليين) ..وهو ما آل إليه مفهوم الصراع بعد أن انزلق إليه مفهوم القرار المستقل بتشجيع من دول عربية همها التخلص ونفض اليد من القضية الفلسطينية، وتحمل مسؤولية ضياعها للقيادة الفلسطينية ( الرسمية) المهيمنة على المنظمة.

لم يكن القرار الفلسطيني مستقلاً عن أنظمة تآمرت وتواطأت على فلسطين ، وإلا لكانت المسيرة أعمق ثورية وأشد وضوحا، وأكثر التصاقا بالجماهير العربية التي قدمت عشرات الألوف على ثرى فلسطين في كل ثورات شعب فلسطين، منذ الشيخ عز الدين القسام، مرورا بالبطل سعيد العاص السوري الحموي قائد ثورة فلسطين الكبرى 1936- 1939، وحتى يومنا هذا، سيما في الثورة المعاصرة التي تأججت نيرانها بعد هزيمة حزيران 1967 .

لقد آلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى قيادة فتح، و(معها) فصائل فلسطينية بعد هزيمة حزيران، وتقدم الأستاذ الشقيري باستقالته للمجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية والشعب الفلسطيني، مبرهنا على استقلالية قراره،.

آلت القيادة بتوجه من قيادة مصر، ومن جمال عبد الناصر، إلى قيادة فتح والمقاومة بعد هزيمة حزيران، لأن مصر كانت بحاجة لفترة تعيد فيها التقاط الأنفاس، لتبني جيشها الذي تمزّق، وتعيد النظر في أحوالها، وتستعد للمواجهة من جديد، وكانت المقاومة قد بدأت الاشتباك مع الاحتلال…

رحل جمال عبد الناصر، وقفز السادات على الحكم، وبدأ مسيرة التسوية والتنازلات حتى كامب ديفد بعد حرب تشرين 1973 وتكرست قيادة المنظمة ( فتح ومن معها) وبدأت مسيرة التسوية فلسطينيا بالتدرج، وبإدارة الظهر للميثاق القومي والوطني المعدل عام 1968، والذي هو نفسه مع تغيير الاسم من ( القومي) إلى ( الوطني)، وتغيير مفردات في المواد ال 33 نفسها لا تمس الجوهر.

هل يمكن استعادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبنائها على أساس الميثاق القومي الوطني الفلسطيني، وتحقيق استقلالية القرار بعيدا عن الأنظمة العربية المتواطئة، والمطبعة، والتي تغطت في العقود الأخيرة بادعاء أنها مع ( الفلسطينيين) فيما يريدون، وأنها ليست ملكية أكثر من الملك، ومع ذلك ظلت قيادة المنظمة ( الرسمية) على صلة وود ووئام مع هذه الأنظمة حتى وهي تطبع مع الكيان الصهيوني؟!

لقد انطلقت القيادة الرسمية الفلسطينية من نفس النقطة التي انطلق منها السادات: في يد أمريكا كل أوراق الحل ، وهو كان يؤكد : 99% من أوراق الحل في يد أمريكا.. أما الواحد في المئة فلم يعرف أحد بيد من هو! وهو ما يعني أن لا ورقة في يد مصر، والأمة العربية، فلا مقاومة، ولا إرادة، ولا إصرار على استعادة الحقوق، ولا جيش مصر الذي عبر ببسالة وبطولة في أكتوبر 1973..ولا مقاومة شعب مصر، وتحمله وصبره على امتداد ستة أعوام، ولا البناء الذي بناه جمال عبد الناصر وتسليحه للجيش من جديد، ولا حرب الاستنزاف التي أقر جنرالات العدو بانتصار مصر الناصرية فيها…وفلسطينيا: لا المقاومة الفلسطينية الممتدة عبر عقود، ولا الانتفاضة الكبرى، فكل شيء في يد أميركا.. و ( الحياة مفاوضات) وهذا هو الخيار الوحيد كما كتب ( كبير المفاوضين) صائب عريقات!!

نعم: يستطيع شعبنا ، رغم سواد الواقع، واستفحال الاستيطان، وتمزق الوحدة الوطنية الفلسطينية، والتمزق العربي، والتآمر الرجعي العربي على كل ما هو مقاوم في وطننا العربي.. يستطيع شعبنا أن ينتفض، ويوقف الانهيار الذي آلت إليه قضيتنا، والخراب الذي أنهى فاعلية منظمة التحرير الفلسطينية.

في فصل عنوانه( النكبة الجديدة والمواجهة الثقافية) يكتب المفكر الدكتور أنيس صايغ متلمسا الحل للأزمة التي نعيشها، وفي وقت مبكر، وبعد أوسلو بفترة وجيزة: ومن المؤسف أن المثقف قصر في أداء هذا الواجب من قبل، وفي مواجهة معظم الهزائم والأخطاء التي منيت بها المسيرة الفلسطينية، وهو تقصير كان له الإسهام الأكبر في وصولنا إلى الوضع المزري الراهن، ومن هنا يكون عجز المثقف الفلسطيني، أو إهماله، أو جهله، أو عدم اكتراثه، مسؤولاً عن نكبة 1993 مسؤولية العسكريين والسياسيين والرسميين عن نكبتي 48 و67 ( ص 132 من كتاب 13 أيلول الصادر عام 1994 عن منشورات بيسان)

وبعد، أختم بكلمة: هذا الكتاب أردنا له، صديقي فيصل جلول وأنا، أن يحرك ساكنا، ويرفع أسئلة، ويقدم رؤية لمثقفين يرفضون الاستسلام، والتطبيع، ويدعو لاستعادة فلسطين قضية عربية أولى بامتياز، بعد أن زوّر وجهها، وضيّعت في متاهات أوسلو وواشنطن، والرهان على ( سلام) مع العدو الصهيوني..والذين رغم كل ما جروه على قضيتنا من خسارات فإنهم لا يتوقفون، ولا يتراجعون، ولا يعيدون الحسابات، ولا يصغون لصوت الشعب العربي الفلسطيني، ولنداءات شرفاء العرب.. ويواصلون الادعاء بأنهم يمثلون منظمة التحرير الفلسطينية التي أفرغوها من كل أهدافها ومضامين مؤسساتها، وفي مقدمتها الميثاق القومي والوطني الفلسطيني.

كلماتنا لا نريدها أن تتبدد في وديان صحارى العرب .. عرب زمن ترامب وأوباما والرهانات على أن أوارق الحل في يد أميركا، وليست في يد شعبنا الفلسطيني وملايين العرب الذين يقاومون، لا الذين يطبعون ويمنحون المليارات رشاوى ابتزازية لأمريكا، ويمولون الإرهاب والإرهابيين لتدمير المقاومة وجذوتها المتبقية في فلسطين ولبنان وسورية، والتأييد الذي تحظى به من ملايين الجماهير العربية.

نثق بالمستقبل، ولذا نقدم كلماتنا الداعية للفعل، وعدم التقاعس، فالثقافة فعل، والمثقف ليس متفرجا مترفا يقول كلمته ويمشي، ولكنه يقول كلمته ويدفع ثمنها مع المقاومين الذين لا يعرفون اليأس.. المقاومين المؤمنين بعروبة فلسطين، وأن المقاومة – وليس التفاوض- هي ما تصنع حاضر ومستقبل فلسطين والأمة الحرة السيدة على مصيرها وثرواتها ومستقبل أجيالها.