وقفة عز

والدي كان حدثني عن سقوط الصفصاف واللجوء الى لبنان – نضال حمد

 يتذكر والدي كيف سقطت بلدتنا الصفصاف بيد عصابات الهاغاناه فيقول:

كنت في نوبة حراسة على أطراف البلدة، لم أكن أعلم بانهيار الجبهة والتحصينات حولها. وحين رجعت الى البلدة رأيت جنودا من اليهود، كانوا قريبين جدا مني لكنهم لم يروني. وأضاف خرجت احدى النسوة من دارها وقالت نحن سوف نسلم للهاغاناه…

( العصابة الإرهابية الصهيونية اليهودية التي احتلت فلسطين وارتكبت التطهير العرقي وعشرات او مئات المجازر في الجليل وكل فلسطين).

فصاح بها أحد الجنود: ممنوع تغادروا البلدة والجميع عليهم التجمع هنا.

بعد أن أدار الجنود وجوههم غاب والدي خلف السلاسل تاركاً خلفه صفصافته.

في ذلك اليوم قام الجنود اليهود الصهاينة بإعدام أكثر من ١٠٠ من سكان البلدة ومن لجأ اليها من القرى المجاورة. ورموا جثثهم في البركة او البئر في البلدة.

وكان ذلك ليل ٢٨/١٠/١٩٤٨

مما يقوله والدي:

كُنا فقراء ونعيش على الزراعة والماشية … ولكن أوضاعنا كانت أفضل قليلاً من بعض الفلاحين في الجنوب اللبناني.. كنّا إستأجرنا منزلاً صغيراً في بلدة يارون قضاء بنت جبيل عندما بدأت تسقط البلدات والقرى في الجليل قبل النكبة، يعني قبل سقوط الصفصاف بقليل، لأن الصفصاف من آخر القرى التي سقطت في الجليل الأعلى. في البيت بيارون خزنا هناك مؤونة وفراش وغير ذلك من الأمتعة لاستخدامها في حال اضطررنا للرحيل عن البلدة. وهذا كان يحدث كثيرا في فترة سقوط الجليل.

كان البيت لسيدتين شقيقتين طاعنتين في السِن، فقيرتين، احداهما تذهب كل يوم الى الحقول والبرٓية لتجمع الحطب وما توفر من خضراوات وأعشاب للطعام. والثانية عاجزة ( ضريرة) ولا معيل لهما. كان لديها ابن هاجر الى أفريقية ولم تعد تعرف عنه أي شيء… يبدو أن التواصل بينهما انقطع تماما منذ غادر الابن بلدته يارون الى القارة السمراء… من شدة الفقر وافقت وردة الباقر على تأجير منزلها لكن طلبت أن تبقى هي وشقيقتها في احدى زوايا البيت وكان لها ذلك.

لأهل يارون علاقات قوية ووطيدة وصلة نسب وقرابة مع أهل القرى المجاورة في الجليل. هكذا قال لي والدي.

أضاف والدي:

خرجت من الصفصاف يوم سقوطها ملتحقاً بوالدي ووالدتي وبقية أهلي الذين فروا الى قرية يارون ثم بلدة بنت جبيل في جنوب لبنان. هناك استلمت البندقية الانجليزية الشريفية التي كانت تملكها عائلتنا من آخر من كان يحملها في البلدة اثناء نوبة الحراسة.

كان أبي يجيد الرماية لأنه تدرب في سلك الشرطة البريطانية، حيث أن الفقر دفع عوائل القرى الجليلية للخدمة في الشرطة. كذلك دفعهم للتدرب والتعلم شعورهم بضرورة ذلك لمواجهة الغزو اليهودي الصهيوني الذي كان يملك الأسلحة والخبرات الأوروبية والأمريكية. بعض أفراد العائلة كان يذهب للحراسة وهو لا يجيد استخدام البندقية بل لأنه صاحبها فيضطر شخص آخر يجيد الرماية للحراسة معه وهو يحمل عصاً أو سكين …

كانت تحصل مشادات لأن صاحب البندقية يرفض أن يعطيها لزميله كي يجربها إن كانت تعمل أم لا. فالرصاصات معدودات ومحدودات وثمنها مرتفع ووفرتها شحيحة. ولكم أن تتخيلوا ذلك…

هكذا كان الناس يواجهون أحدث السلاح الصهيوني الأوروبي دفاعا عن الأرض. المهم في بنت جبيل أراد والدي بيع البندقية بسبب سوء الأحوال المادية والحاجة الماسة للمال، سعر البندقية كان يساوي ٨ ليرات لكنهم عرضوا على والدي ليرتين فقط فأبت نفسه القبول بذلك. وقرر عدم بيعها ودفنها في سلسلة ترابية ببنت جبيل. على أمل أن يرجع ومعه بندقيته الى الصفصاف، لكنه لم يرجع، فيما بقيت البندقية مدفونة تحت تراب بنت جبيل ولازالت حتى يومنا هذا.

بعد ٦٥ عاما ذهب والدي لزيارة بنت جبيل وزار مكان دفنها فوجده كما هو بلا تغيير. لكنه لم يجرؤ على حفره والبحث عنها فالقوانين اللبنانية ستقف عائقاً في وجهها ووجهه. كما أنه لن يستطيع الحفر هناك بدون إذن مسبق من السلطات اللبنانية. أما في حال عثر عليها فلن يتمكن من احضارها الى مخيم عين الحلوة بدون موافقة أمنية لبنانية.

هذا الأمر يشغلني كثيرا وسأعمل على استرجاعها قبل أن يلاقي والدي وجه ربه.

– كنت كتبت هذا الكلمة في الخامس والعشرين من تشرين الأول – أكتوبر 2017. وبعد أكثر من سنة بقليل من تلك الجلسة، توفي والدي وتحديدا يوم 14-12-2018 في بيتنا بمخيم عين الحلوة في لبنان.

نضال حمد آخر تحديث 14-12-2019

والدي حدثني عن سقوط الصفصاف واللجوء الى لبنان

اعداد نضال حمد